الترحم والتراحم والعيش المشترك... "الزبداني" مثالاً
كانت الزبداني بلدة مسيحية وقبلها وثنية يعبد أهلها أثينا في العهد اليوناني، والإله بعل قبل ذلك كله، ومع قدوم الإسلام دخل إليها مع جيش الفتح المتوجه من دمشق إلى بعلبك مرورا بعنجر، جارة الزبداني، وصورتها من ناحية البقاع. حيث ذكر المؤرخ كمال المويل بأن جميع البلدات والضياع الموجودة على ضفتي بردى فُتحت خلال سير المسلمين مع مجرى النهر.
والزبداني بلدة جبلية زراعية ومصيف تاريخي، تقع شمال غرب مدينة دمشق، محاطة بالجبال الوعرة ويصلها تاريخيا طريق واحد يمتد من دمشق إلى بعلبك، وتقع في منتصف هذا الطريق، وكمجتمع زراعي معزول نسبياً بحكم الجغرافية، فرضت الطبيعة على سكانها وعلى مدى القرون الخالية نمطا تشاركيا في الحياة، كرس من اعتماد أهلها على بعضهم بعضاً وفتح الباب لعلاقات اجتماعية وثّقها الانتماء الجغرافي والاجتماعي لمنطقة الزبداني، وكذلك كرّس هذا الانعزال لدى السكان نوعاً من التمسك الفطري بالدين، قد لا ترى الكثير من علماء الدين من الطرفين، لكنك تجد الله حاضرا في طريقة حديثهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، حيث تفرض العزلة والبعد عن المراكز الاجتماعية الرئيسية (كدمشق مثلا) نوعا من الألفة الاجتماعية، وتمسكا أكبر بالدين لتأخر تأثرها بالتغيرات الاجتماعية والدينية والسياسية التي تحصل بسرعة أكبر في المدينة (هذا لا يعني أنه لا توجد سلبيات لهذه العزلة أيضاً).
ومع مرور السنين استمر هذا التآلف وتوطدت العلاقات أكثر وتطورت، ونجت هذه الصيغة من التعايش رغم مرور الكثير من الأحداث على المنطقة، فمثلا لم يسجل التاريخ أي حالة تنازع على أساس ديني بين أهالي الزبداني مسلمين ومسيحيين، وخاصة خلال الفترة التي سميت بـ(الطوشة) والتي رافقها الكثير من التوتر الطائفي في بلاد الشام، وعلى العكس فقد أغارت جماعة من الدروز على الزبداني حينذاك، وقُتل بعض أهلها ونهبت أملاك السكان من كلا الفريقين، وكذلك هاجم بعض الشيعة بلدة سرغايا شمال الزبداني ومع هذا كله لم تسجل أي حالة من التوتر بين سكان الزبداني أنفسهم، واستمر ذلك إلى يومنا هذا رغم اختيار المسيحيين في المدينة النأي بموقف حيادي من الثورة والتي شاركت فيها الزبداني بقوة.
تمثل الزبداني صورة مصغرة عن التعايش الديني في مجتمع متعدد الأديان، وهو تعايش مثالي لأنه لا يفرض على أحد الطرفين التخلي عن هويته وعقيدته في سبيل العيش المشترك
تقوم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الزبداني على مبدأ حسن الجوار، ولا إكراه في الدين، ومع انتشار الصداقات والعلاقات الفردية إلا أن العلاقة في المناسبات الاجتماعية كالحزن والفرح والأعياد يسودها طابع الواجب الاجتماعي الجماعي، فتجري التهنئة أو التعزية بزيارات جماعية عادة ما يكون على رأسها شيخ أو خوري أو كبير العائلة والوجهاء، وتجري التهنئة أو التعزية باسم الطائفة كلها أو العائلة الممثلة بوجهائها.
ولهذه الزيارات سمتها الخاص وصيغتها الفريدة التي من المؤكد أنها تطورت عبر القرون حتى وصلت إلى صيغة من التفاهم الاجتماعي والديني بين الطرفين، إذ تضمن هذه الصيغة دين وعقيدة الطرفين، فتتم التهنئة بالأعياد والأعراس مثلا، وخلال أوقات متعارف عليها لا تشمل أوقات الصلاة ولا تأدية الشعائر الدينية، بل تكون خالية من أي صبغة دينية قد تمس بعقيدة الطرفين، وفي الغالب تجري بعد انقضاء المناسبة أو الاحتفال بما يضمن استمرار التآلف الاجتماعي وحسن الجوار، وكذلك خصوصية كل طرف.
وأما التعزية فلا يختلف طابعها عن طابع التهنئة بالفرح، فهي تجري بصيغة جماعية، وينظر إليها كواجب اجتماعي وليس فردياً، وعادة ما تجد أفواجاً من المسيحيين يزورون بيوت عزاء المسلمين بشكل جماعي، ويكون على رأسهم الخوري عادة، وكذلك من ناحية المسلمين، عادة ما يترأسها شيخ مسجد الحي أو الوجهاء، وأهم من ذلك كله وأجمل ما في الأمر عبارات التعزية التي يستخدمها الطرفان أثناء التعزية، إذ اختيرت صيغة باللهجة العامية لا تمس بعقيدة أي من الطرفين، وكذلك تعبر في مضمونها عن الألفة والتعايش المبني على مبدأ لكم دينكم ولي دين، حيث يدخل فوج المُعزين من إحدى الطائفتين بيت العزاء فيتجمع أبناء العزاء في صف لتلقي التعازي، فيقول الزائر لأهل الميت "تبقالنا حياتكم"، ويرد عليه أهل الميت بعبارة "حياتكم الباقية"، وكذلك تكرر العبارة نفسها من قبل كل شخص يدخل للتعزية ويتلقى الرد ذاته من أهل العزاء، ولا تجري التعزية لأكثر من ربع ساعة، وتُقدَّم القهوة المرة ثم يغادر المعزّون جماعياً.
تمثّل الزبداني صورة مصغرة عن التعايش الديني في مجتمع متعدد الأديان، وهو تعايش مثالي لأنه لا يفرض على أحد الطرفين التخلي عن هويته وعقيدته في سبيل العيش المشترك، على العكس، بل يمثّل عقدا اجتماعيا ناجحا نقشته قرون طويلة من تجربة العيش المشترك، إذ يضمن لكل طرف حفاظه على عقيدته ودينه بشكل صريح، وفي الوقت نفسه حبل ودّ غير منقطع تحفظه ثوابت دينية تؤكد حسن الجوار، وأنه لا إكراه في الدين.