الحكيم المشرد يعود إلى الوطن
عاد الحديث في سهرة الإمتاع والمؤانسة إلى حكايات أبو الجود. جرت مقارنة بين الرجل الصناعي الحلبي الحاج سامي صايم الذي قيل إن ثروته تقارب المليون ليرة سورية، في تلك الأيام، ولذلك كانوا يطلقون عليه لقب "مليونير"، ووالد أبو الجود الذي طلب منه ابنه ليرة واحدة، فصفر صفرة أخافت طيور الحمام، وأوقع صحن الرز بحليب في حضن زوجته. يا لها من مقارنة مجحفة!
أبو جهاد الذي اعتاد أن يوبخ "أبو الجود" ويضطهده، قال:
- حتى الفرنكين (عشر قروش) اللي كان أبوك بده يعطيك اياهن خَرْجِيّة كتار عليك.
أبو الجود (ضاحكاً): من دون ما تحكي حضرتك، كان أبوي حارمني من الخرجية بالفعل. والله إذا بحسب الخرجيات اللي آخدهن من لما كنت زغير لوقت ما رحت ع العسكرية ما بيطلعوا ليرتين! وعلى كل حال مو هادا هوي الشي اللي بيقهر. اللي بيخليك تنقهر إنه أبوي كان معتد بنفسه، وكان يتباهى بعيلته، على أساس إني نحن بيت "عبد المجيد" عيلة كويسة.
حنان: العيلة الكويسة، بحسب المفاهيم السائدة في بلادنا، هيي اللي بيطلع منها ناس أغنياء، وشباب بيتعلموا وبيصيروا دكاترة ومهندسين، ونسوان بيتعلموا وبيصيروا معلمات مدارس، وشباب بينتسبوا لحزب البعث وبينافقوا وبيكولكوا لحتى يصيروا مسؤولين في الشعبة أو في الفرع أو مدراء شركات، وبوقتها بيصيروا الناس يجوا لعندهم وبيطلبوا مساعدتهم في بعض الأمور. يا إما بيصير واحد من العيلة ضابط كبير، وممكن يفرزوه ع المخابرات، وبيصير عنده سيارات ومرافقة، وبيحطوا كولبة حراسة على باب بيته، منشان ما حدا يهجم عليه ويغتاله.
أبو الجود: والله يا ست حنان إنتي عطيتينا زبدة الكلام، نحن عيلتنا ما طلع منها دكاترة، ولا مهندسين ولا ضباط ولا بعثية ولا مخابرات، بس بزمانه ابن عمي (حَكُّومة) تعلم ضَرْب الإبر سَمَاعي.
أم زاهر (ضاحكة): سماعي؟ أي أشو هوي عزف ع العود؟
أبو الجود: لا عود ولا كمنجة، لكن بهديكه الأيام كان في ناس يتعلموا ضرب الإبر في مدرسة التمريض، وناس يتعلموها بدون دراسة. يعني متل العزف السَّمَاعي. المهم إنه المريض، بوقتها، كان يروح ع الدكتور ويتعاين، ولما يكتشف الدكتور إنه في معه التهاب لوزات أو تيفوئيد أو مجاري بولية، كان يكتب له حب وتحاميل، وإبر في العضل. وكان في كل ضيعة واحد يضرب إبر، وضراب الإبر بيغلي "السيرينجات" بالمَيّ حتى تتعقم، لأنه نفس السيرينج كان يضرب فيه كل المرضى! المهم هادا ابن عمي اسمه محمد، ونحن سميناه (حَكُّومة) لأنه بيحب يعطي حِكَمْ. كلما صارت قدامه شغلة بيقول: أنا رأيي هالموضوع فيه حكمة، كذا كذا.. حَكّومة تعلم ضرب الإبر، وصار يمشي في الضيعة ويطنّب ويرفع راسه لفوق، على أساس إنه معه اختصاص نادر! لكن يا شباب ربنا كبير، والإنسان قد ما كبر إلا يجي يوم ويوقع على راسه نَكْس.
أبو ماهر: ليش شو صار معه؟
أبو الجود: في يوم من الأيام حَكُّومة ضرب إبرة في العضل لأبو عموري الحلبي، وعلى أثر الإبرة تشنجت رِجل أبو عموري في منطقة الفخذ، وعَضَّلت، وما عاد يقدر يمشي، وتاني يوم وصل خبر لحَكُّومة إنه أبو عموري بده يرفع عليه دعوة قضائية، فخاف، لأنه الجريمة تبعه مزدوجة؛ جريمة إنه بيشتغل بضرب الإبر بدون دراسة ورخصة (سَمَاعي)، وجريمة إنه أخطأ في ضرب الإبرة لحتى تجمع السائل في مكان من الفخذ، وصار قاسي، ولونه أزرق، وقال لحاله: (ترى أكلنا هوا، بكرة بياخدونا ع المحكمة، والقاضي بيقول للشرطة خدوه ع الحبس). وصار يبعت ناس يترجوا أبو عموري منشان يشيل من ذهنه فكرة الدعوى.. وأبو عموري لما عرف إنه كسب الجولة قال للوسطاء (إذا حَكّومة بيدفع لي خمسين ليرة تعويض أنا ما بشتكي عليه)! بتعرف يا عمي أبو محمد الخمسين ليرة أشو كانت تشتري بهديكة الأيام؟
أبو محمد: بعرف. كانت تشتري تلات دونمات أرض تقريباً.
أبو الجود: نعم. وإذا بتقول قدام أبوي (خمسين ليرة) بيبقى بيصفر لحتى يطيّر كل حَمَام المحافظة. وهادا ابن عمي حَكّومة من وين بده يجيب المصاري؟ أصلاً هوي كان يضرب الإبر وياخد إجرته بيضات جاج، أو كيلو برغل، أو كيلو رمان، أو رطل قطن محبوب، وفي ناس كان يضربهم إبر ويقولوا له: مندفع لك لما بيطلع الموسم.
أبو ماهر: عن جد هاي محنة. وشلون انحلت بالله؟
أبو الجود: حَكُّومة هرب من القرية، وعلى حسب ما سمعنا إنه راح عَ الحسكة، وألقى هويته الشخصية في نهر الفرات ومشيت مع التيار، ولما حدا يسأله عن اسمه صار يعطيهم اسم تاني، وإذا حدا بيسأله عن هويته بيقول (والله ضاعت مني). وصار يضرب إبر في الحسكة، ويعطوه إجرته قطن محبوب، وكلما صار عنده شَل قطن، كان يبيعه، ويخبي حقه في جيب زغير جوات سرواله الداخلي، وكان ما يبخل ع الناس بالحِكَمْ، مثلاً، بيكون عم يضرب الزلمة إبرة، بيقول له:
- لولا الإبر بيبقى الزلمة مرضان. ولولا المرض ما كان ضراب الإبر استفاد. وإذا ما استفاد ضراب الإبر بيطفش. وإذا الزلمة بيطفش مرة وحدة بيكون منيح، لكن إذا بيطفش مرتين بيتبهدل. هلق أنا إذا طفشت وين بروح؟ ما في قدامي غير العراق وتركيا، وأنا ما بعرف إحكي تركي، وما بعرف إذا العراقيين بينضربوا إبر، إذا بروح لهنيك وما بلاقي شغل بصير شحاد. وما بعرف الشحادين كيف بيعيشوا في العراق. والمتل بيقول رغيف برغيف ولا يبات جارك جوعان.
قال أبو جهاد: لما حَكُّومة بيضرب إبرة لمريض لازم يجوا تنين من قرايبين المريض يسدوا له تمه. لأنه الحكي اللي عم يقولوا ماله علاقة بالحِكَم. هادا علاك.
أبو الجود: المهم، سمع حَكُّومة إنه أبو عموري مات. عَ السريع ترك الحسكة ورجع ع الضيعة. وحضر جنازة أبو عموري، وعَزّى ولاده وعطاهم (حكمة) بتسوى مية ألف ليرة.
أبو إبراهيم: يا ساتر. وأيش هيي هالحكمة العظيمة بقى؟
أبو الجود: قال لهم الإنسان لما بيموت وبيصير تحت التراب، مو كتير مهم تكون رجله سليمة أو معضلة. المقبرة ما بتعترض على أي نوع من الأموات، حتى المكرسح بيدفنوه تحت التراب وإسم الله عليه!