الحُب الأول أم الأخير.. أيهما الصادق؟
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
بيتا الشعر أعلاه لأبي تمام الطائي، غنيان عن التعريف، فإن لم تكن على علم وخبر بهما، فاذهب وابحث واقرأ ثم استدر عائدًا لقراءة هذه التدوينة.
فلَعمري إن ذلك البيت أبلغ أبيات العرب في الحبّ الأول، ليس لشيء سوى بساطته ويقينه، فهو بيت قديم ووسيط ومُعاصر، في كلّ الأزمنة يستشر شرارةً بين الناس. نحن لا نذكر القصيدة كاملة، لكننا نذكر بيتين هما الأحق بالذكر، فمطلع القصيدة، يقول:
البَينُ جَرَّعَني نَقيعَ الحَنظَلِ وَالبَينُ أَثكَلَني وَإِن لَم أُثكَلِ
ما حَسرَتي أَن كِدتُ أَقضي إِنَّما حَسَراتُ نَفسي أَنَّني لَم أَفعَلِ
فالبيتان السابقان خصهما الشاعر لنفسه، وليس للعام أن يُدرك منهما شيئًا. أما البيتان الخالدان، فهما للعام، ليسا حالة خاصة، بل عامة، يُصوّرُ فيهما الشاعر حالَ الإنسان مع الحُب الأول، خالد، باقٍ ما بقيَ صاحبه.
اختلف الخلق في قصة البيتين، منهم من قال إن هناك رجلًا تزوج امرأة عشقها، ولما جرى الزمان بآثاره على وجهها، تزوّج الأصغر سنًا، فكانت الصُغرى تُعاير الزوجة الأولى، وتقول:
الثوب ثوبان ثوب به البلى وثوب لدى البائعين جديد
فاشتد غيظ الزوجة (الزوج) الأولى فقالت:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
وهناك قصة تستبدل بالزوجتين جاريتين، وتسير على نفس النسق والأبيات.
ولمّا أتَى ابن القيم الجوزية، وأراد في كتاباته الأدبية مُجاراة تلك الأبيات قال:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى واختر لِنَفسِكَ أحسنَ الإنسانْ
فلم يُكتب لتلك الأبيات خلودًا كما كُتب لأبيات أبي تمام، والعِبرة هنا في صدق القول وحُسن الإيقاع، بصرف النظر عن القصة وراء خلود الأبيات، إلا أن لها - على الدوام - قصة جديدة بطلها هو الحنين.
فكم منا دخل معترك الحياة، باختلاف ليله ونهاره، وجلاء الزمان فيه، وانجلاء الذكريات عنه، إلا أن هناك الأول، الذي لا يُنسى في كل شيء، خاصة في الحب؛ فمن ينسى الحبيب الأول، ولو لم يكن صادقًا!
يختلف الناس حول ماهية الحب الأول، بين من يراه حبًا زائفًا، ومن يراه نكسة، ويراه تجربة غير ناضجة، ومن يراه حقيقة بادية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه يظل الحب الأبكر والأصبح؛ فهو النهل الأول من نهر الهوى.
أصحاب الرأي الثاني بأن الحب والميل له لا بد أن ينبع عن تجربة صادقة، لا عن ترتيب الأول أو الآخر، يرددون بيت شعر، لا نعرف على وجه التحديد من صاحبه، هل هو الأصبهاني أم ابن طباطبا العلوي:
دَع حُب أَول مِن كَلَفت بِحُبه ما الحُب إِلّا لِلحَبيب الآخر
ما قَد تَوَلى لا اِرتِجاع لِطيبه هَل غائب اللذات مثل الحاضر
فهم بذلك يُقرون أن الحب لا مناص ولا ارتباط فيه إلا بالصدق لا الغش والزيغ والزيف. فقد يكون الحب الأول محض هراء، انجراف مشاعر أو خداعاً، ويكون العوض في الحب الآخر، وهذا لَعمري أشد الحق إن لم يكن جل الحق وكله، فالحب ليس بترتيب ولا مراكز إنما بالصدق المُتبادل، ولكن هل يُنكر ذلك البيت مقامَ الحب الأول؟ لا، على العكس، فالبيت الثاني: "ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه"، يؤكد أن الإنسان يظل مسلوبَ الفؤاد لكل ما هو أولِ، نتيجة لعامل الحنين الآسر.
وهناك فريق ثالث، هو -من وجهة نظري- متقلبو الهوى والفؤاد ولا ارتكاز فيهم، براغماتيون نفعيون في مشاعرهم، يبحثون عن القبول ويستشعرون النقص فيستبدلون به أيَّ حبٍ ولو كان في غير محله، وعلى رأس هؤلاء عمر بن أبي ربيعة:
سَلامٌ عَلَيها ما أَحَبَّت سَلامَنا فَإِن كَرِهَتهُ فَالسَلامُ عَلى أُخرى
فذلك البيت لا ينم عن صدق مشاعر صاحبه ولا ولائه للحبيب الأول أو الآخر أو حتى الأوسط، وإنما ينم عن انتفاع ذكوري نحو امرأة، أي امرأة، ولا يجوز تعريفها بـ"ال" ما لم تقبل بسلامه، ولكن حين تقبل، تكون مثل ما يقول الشاعر نفسه:
بَيضاءُ مِثلُ الشَمسِ حينَ طُلوعِها مَوسومَةٌ بِالحُسنِ تُعجِبُ مَن رَأى.