"الختايرة" في ألمانيا وسورية
تصرفُ الدولةُ الألمانية علينا، نحن الختايرة من اللاجئين، أموالاً طائلة في مجال الطبابة.. هذا لأننا، كما كان عمي الأديب الراحل حسيب كيالي يقول، مُكَحْكِحُون، مُصَوْفِنُون، ننتظر ليلة الجمعة لكي يديرونا على القبلة، ويقرأوا لنا سورة "تبارك" قبل أن نتوكل، أي: نموت!
ومن مزايا الختيار الذي يعيش هنا، في ألمانيا، أنه يحرص كثيراً على تنفيذ مواعيده الطبية، لسببين مهمين، الأول؛ أن النظام في هذه البلاد (وآه ثم آه من النظام، فنحن لا نطيقه!) يغرّمكَ بمبلغ من المال إذا حجزتَ موعداً عند طبيب ولم تذهب إليه! تعليلُ ذلك أنك، بغيابك عن الموعد، تقطع على الطبيب فرصة استقبال زبون غيرك، وذلك الزبون الآخر يلتزم بمواعيده، لأنه ليس مثلك أنت الذي تعطي لصديقك موعداً بأن تزوره "في بحر هالأسبوع"، أو في ضُحَى النهار، أو بعد صلاة العشاء، أو بين الصلاتين، ومعتاد، أنت، على شراء حبوب الأنتي بيوتيك عيار 500 من عند الصيدلي، دون استشارة الطبيب، واستعمالها بطريقة (السَفّ) كما لو أنها حبات قضامة ريحاوية مملحة.. والسبب الثاني أن الحصول على موعد آخر قريب، هنا، أصعب من قلع الضرس بدون بنج.
ولكيلا نقع، أنا وزوجتي، في أحد ذَيْنَكِ المحظورين، فقد فتحتُ ملف "وورد" على كمبيوتري، وخصصت حقلاً لها، وآخرَ لي، وصرت أسجل فيهما مواعيد طبيب القلبية، والبولية، والداخلية، والعينية، والأذنية، ومخابر التحليل، والتصوير الشعاعي، والطبقي محوري، بالإضافة لطبيب الغدد الذي تراجعه هي، باعتبارها مصابة بالداء السكري الوَبيل، وخصصت، في الملف، حقلاً أسجل فيه اسمَ الشخص الذي سيرافقني، أو يرافقها إلى الموعد، لأجل الترجمة، لأن مَن لا يعرف اللغة الألمانية سيكون حالُه كحال الضرير الذي لا يغامر بالخروج من داره إذا لم يتبرع أحدُ أفراد أسرته باصطحابه، لكيلا يتعثر، ويقع على الأرض، فيكون كمعلمي الأكبر أبي العلاء المعري الذي عَرض عليه شاعرٌ من معارفه، في رسالة الغفران، فكرةَ أن يركب كل منهما حصاناً، ويتجولا في تلك الجنان الفسيحة، فاعتذر معلمي، وقال له:
- أنا في حياتي لم أركب حصاناً، فهل تريدني أن أركب حصاناً، وأسقط من عليه، وأصير أضحوكة أمام الناس؟
كانت زوجتي تخبر ابنتَنا الكبرى ريتا، عبر الواتس أب، بما حصل معها أثناء زيارتها طبيبَ العيون، بالتفصيل الممل، وأنا أصغي إليها بحكم العادة، فقد دأبتْ، من يوم أن لجأنا في ألمانيا، على أن تروي لكل مَن يتصل بها من سورية، أو من السعودية، أو من السويد، أو من ضمن ألمانيا، كل التفاصيل المتعلقة بزيارة الطبيب، دون أن تنسى شيئاً، كقولها، مثلاً:
- فقنا اليوم، يا ستي، من الصبح، شربنا قهوة، وحطيت فطور لمحمد (هذا اسمي المنزلي)، وعندما صارت الساعة تسعة مرت عليّ بسمة (حفيدتنا)، وطلعنا، فوجئنا أن السماء تمطر، فرجعنا وأحضرنا الشمسية، المهم، وصلنا البانهوف (محطة القطار) ووقفنا ننتظر. قالت لي بسمة، يا نانتي، في خبرية ليست سارة، كتبوا على اللوحة أنه يوجد تأخير ثلث ساعة في القطار، قلت لها أمرنا لله، وانتظرنا، كتبوا، مرة ثانية، أن الرحلة ألغيت، فاضطررنا أن نركب قطار "كيل"، ونزلنا في نيومنستر، وأخذنا قطار الإس بان إلى هامبورغ، يا ستي، بلا طول سيرة (كل هذه الإطالة وتقول لها بلا طول سيرة!)، وصلنا متأخرين ربع ساعة، بسمة ترجمت للممرضة، حكت لها أيش صار معنا في السفر، ما اقتنعت، قالت اقعدوا على الانتظار، قعدنا، وصار يدخل زبون ويطلع زبون ونحن قاعدون، حتى في الأخير صاحوا "فراو بدلة"، أنا نهضت، واندفعت نحو غرفة الطبيب، فأوقفتني بسمة، وقالت لي انتظري يا نانتي، تقول الممرضة إنه لازم يحطوا لك قطرة توسيع حدقة أولاً، ووسعوا لي الحدقة، وأنا كنت أطس (أي أبصر)، وبعد التوسيع انعميت..
وتستمر فراو بدلة بشرح التفاصيل التي لا علاقة لها بموضوع المرض، حتى يكاد المصغي إليها أن ينسى السالفة التي كان يسأل عنها، مثلما حصل مع صديقي "إبراهيم"، قبل خمس عشرة سنة، في سورية، فقد كان مداوماً في وظيفته، ودعاه المدير إلى اجتماع طارئ، وبينما هو في الاجتماع، رن هاتفه المحمول، وكانت شقيقته الكبرى على الخط، وقد بدت ملهوفة، أعلمته أن زوجها خرج من البيت غاضباً، بعدما أنزل الطنجرة التي طبخت فيها المحشي، من على موقد النار، وأفرغ فيها كيس الملح، ثم علبة البهار، والكمون، حتى لم يعد المحشي صالحاً للأكل! ومن فرط اللهفة التي وجدها في لهجة شقيقته، استأذن من المدير، وركب سيارته، وطار إلى دارها مثل البرق، وعندما سألها:
- ايش صار معك؟ وليش زوجك المحترم أفسد طبخة المحشي؟
قالت له: اقعد لأحكي لك.
قال: أنا مستعجل.
قالت، وقد أبدت زعلاً: إذا مستعجل، لماذا أتيت؟ اجلس.
فاضطر أن يجلس، متشوقاً لأن يعرف ماذا جرى، وفي اعتقاده أن هذه الحادثة قد تؤدي إلى أن تصل الأمور بين شقيقته وزوجها إلى الطلاق. قالت:
- الليلة قبل البارحة، كنا سهرانين أنا وهو، رائقين، قال لي: أنا مشتهي أكلة محشي. قلت له: أبشر. عند عيونك. ومنذ أن طلع النهار، نزلنا، أنا وهو، إلى السوق، اشترينا كوسا وبيتنجان وقرع من النوع (القلامي)، ومررنا بالقصاب أبو ربحي، فزوجي لا يشتري من عند أبو قرمو، لأنه غشاش، يدحش اللحم البيلا بين العَوَاس، بلا إطالة، اشترينا كيلو لحمة مفرومة، مع العصاعيص والدرنات، وعدنا إلى الدار، وكان أول شيء يجب علي أن أعمله أن أقوّر الكوسا والبيتنجان والقرع، ولكن مقوارتنا كان فيها مشكلة، وهي أنها مثلمة، كلما أدخلتها في كوساية أو قرعة أو بيتنجانة تخرقها.. طرقت الباب على جارتنا ذات الضريح الرخو، أم كربو، وطلبت منها أن تعيرني مقوارتها، فراحت تتذرع بأن سلفتها استعارتها من عندها، ولم تعدها، لأن سلفتها، وأنت أكبر قدرا، جحشة، وطماعة، تعيش هي وزوجها على أكتاف الآخرين، وأنا واثقة من أن لديها مقوارة جديدة تخبئها في الكتبية، وتستعير مقاور الناس، ولا تعيدها إليهم بسهولة..
ملاحظة من كاتب هذه الحكاية: تبين لصديقي إبراهيم أن شقيقته وزوجها كانا يجريان به مقلباً، فبعد ربع ساعة من هذه التفاصيل المملة، التي لا علاقة لها بالموضوع، خرج زوجها من غرفة النوم، ورحب به، وتغدوا مع بعضهم من المحشي. وأما فراو بدلة فحينما تحكي تفاصيل رحلتها إلى الطبيب فتكون في قمة الجد، مع الأسف.