الدراما العربية وتأصيل العنف ضد المرأة
حينما أجلس إلى كبار السن، ممن تجاوزت أعمارهم السبعين عاماً، أستمتع بالحديث إليهم، وأتعرّف منهم إلى العادات والتقاليد القديمة الحقيقية للمجتمع، فالعادات والتقاليد و"الأصول" هي ما يميّز مجتمعاً عن غيره، وهي ما يحافظ على تماسك الأسرة، بل والمجتمعات بأسرها.
من المتعارف عليه في العادات اليمنية (والعربية أيضاً)، أنّ من عدم الرجولة ضرب المرأة أو شتمها أو إهانتها، وإن حدث هذا بشكل نادر، تجد القبيلة كلّها تهتز، وتصف الفاعل بعدم الرجولة، حتى أنّ المرأة لو بادرت هي باستفزاز الرجل كان يرى أنّ من الرجولة الكاملة عدم الرد اللفظي العنيف أو البذيء عليها، ويحرص كلّ رجل شرقي أصيل على عدم تلطيخ رجولته به، فالكل يرى أنها "كائن عاطفي انفعالي ضعيف ولا يؤخذ بكلامها"، وإن اختلف التعبير عن هذه الفكرة.
لو عدنا إلى الثلاثين عاماً الأخيرة، وقارنا بين مسلسلات التسعينيات من القرن الماضي ومسلسلات السنوات العشر الأخيرة فقط، لوجدنا فارقاً شاسعاً بين كل هذا؛ فالمسلسلات كانت ثورية تجرّم العنف بكافة أشكاله، بالذات تجاه المرأة، وإن ورد في إطارها، فذلك لمحاولة معالجته وتجريمه، أما الآن فنجد أنه تتم برمجة المشاهد والمشاهدة على العنف ضد المرأة والتعايش معه بسلاسة!
في الحقيقة، لست من متابعي المسلسلات إلا في ما ندر، لكني لا أسلم من مقاطع تصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتشر أحد المقاطع من مسلسل عربي مشهور، دار خلاله نقاش بين زوج وزوجته، فقام بصفعها صفعة مدوية، وحين أبدت دهشتها وصدمتها انهال عليها ضرباً حتى سال دمها. الخطير في المشهد ليس هذا، بل أن ينتهي المشهد بابتسامة واحدة من الزوج/الممثل بعد عودته من سهرته التي ذهب إليها كي يروّح عن نفسه بعد ضربه زوجته، وعادت "المياه إلى مجاريها" بابتسامة رضا عن الزوجة التي ظلت تبكي وتترقب عودته لتقدّم اعتذارها إليه لأنها استفزته في "ساعة شيطان"!
لو أنّ المشهد انتهى برفض اجتماعي لذلك الزوج، ووصمه بنقص الأخلاق والشهامة والمروءة والرجولة، وأنّ المجتمع تعامل مع من يعنّف المرأة باستنقاص لرجولته ونبذه ووعظه لهان الموقف. ترى لو استفزه رجل مثله مكافئ له في القوة، هل كان سيجرؤ على ضربه؟! وإن فعل، فهل سيسامحه الرجل الآخر ويعتذر عن استفزازه له، وينتهي المشهد بعبارتهم الخالدة "ساعة شيطان"؟!
تكرار مشاهد العنف في الدراما على مرّ السنوات ساهم في برمجة المجتمعات على جعل تعنيف النساء سمة رجولية
كم من المشاهد ورد فيها أن امرأة رفضت العنف، أو رفعت دعوى قضائية؟ أو توصلت إلى ردّ اعتبارها بمعاقبة الجاني المعنّف، أياً كانت صفته وصلة قرابته بها؟
هذا ما تتم برمجة الأجيال الحالية عليه، التعايش مع العنف ضد النساء، بل والانبطاح له، وكأنه جزء بديهي في حياتهن، تلك المشاهد، وربما غيرها، مما لم أره أسوأ منها، وتكرارها على مرّ السنوات ساهمت في برمجة المجتمعات على جعل تعنيف النساء سمة رجولية، وأنّ إذعان النساء للعنف (الزوجي خاصة، والأسري عامة) صفة أنثوية لا فكاك منها، وأنّ الكرامة لا تُجرح بالضرب والكسر والإهانة، فالكرامة تكمن (من وجهة نظرهم) في أن تتشبّث المرأة بالبقاء مع زوجها، مهما كانت عيوبه، ومهما كان حجم العنف والضرر اللاحق بها.
قبل سنوات كنت أركب حافلة للذهاب إلى كليتي، وفجأة وقف رجل ضخم الجثة وخلع "شبشبه" (حذاءه) الضخم وأمطر رأس المرأة الجالسة إلى جواره ضرباً حتى أحسست بلسعه على رأسي... في صمت كلّ ركاب الحافلة، وبكاء المرأة المكتوم خوفاً من أن يستفز بكاؤها الوحش الذي إلى جوارها فيزداد ضراوة، لم يغب المشهد وألمه من داخلي حتى اللحظة.
قبل فترة قصيرة، قام رجل في قلب العاصمة صنعاء بقتل زوجته في وضح النهار وفي وسط الشارع، وما زال إلى الآن حيّاً يرزق، دون أن يتلقّى أي عقوبة!
إخوة في محافظة أخرى، أرغموا أختهم على تجرّع سم قاتل إلى جانب ضربها وتعذيبها حتى فارقت الحياة، ودوّنوا كلّ هذا عبر التصوير بالفيديو وأرسلوه إلى والدهم المغترب ليبارك رجولتهم، وبكلّ بساطة تنازل أمام القضاء عن دم ابنته!
كي تتغيّر أو تتفعّل أو تطبق قوانين الدول، لا بد من نهضة ثقافية مجتمعية مناهضة للعنف ضد النساء، ولو أنّ المسلسلات (بالذات في موسمها الرمضاني) استغلت الجانب الروحاني لرمضان بزرع القيم الاجتماعية والإنسانية السوية كمناصرة المظلوم ونبذ العنف، لقدمت رسائل خالدة، وغيرت حياة مجتمعات وأجيال بأسرها إلى الأفضل.