الدول الطاردة للعقول الاستراتيجية والمستثمرة لها
الناظر للوضع الحالي يرى أن أغلبية الدول المتقدمة تهتم بالعقول الاستراتيجية، بل وتعتبرها ثروة قومية لا تفرط فيها، ولا تتركها نهباً لطرف آخر، حيث يعتبرونها ثروة وكنزا لا يقدر بثمن، نتيجة ما يحمله أصحابها من عقول تستطيع أن تنقل الدولة من دولة متخلفة إلى دولة تعد في مصاف الدول المتقدمة. اهتم أصحاب القرار في الدول المتقدمة باستثمار هذه العقول وسط مؤسسات قوية أو مراكز أبحاث، حتى تتلاقح الأفكار ويتم تبادل الخبرات وتثمر إنتاجاً مميزاً.
عملت الدول المتقدمة على الاهتمام بهذه العقول بإتاحة تأسيس مراكز تفكير استراتيجية لها تهتم بدراسة العديد من الظواهر المؤثرة في السياسة وإدارة الدولة الحديثة، وأصبحت مراكز التفكير -أو ما يطلق عليها مراكز Think Tanks- لها دور واضح وفعال وملموس، ليس فقط في تطور الحياة، بل في تحقيق مستهدفات الدولة. على الرغم من محاولة الكثير من الدول ومن ضمنها الدول العربية، تأسيس بعض المراكز، ولكن دورها أصبح مهمشًا، وأبطلت فاعليتها نتيجة عدم الاستثمار فيها بشكل صحيح، أو تكبيلها بسياسات تبطل مفعول منتجها.
في بداية نشأة مراكز التفكير كان الهدف منها عمل دراسات عن أمن الدول وجيوشها والارتقاء بقدرات البلاد الحربية، وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ العمل على إنشاء مراكز التفكير السياسية والتكنولوجية، ولعل ثورة المعلومات والاتصال والتكنولوجيا مع بداية الألفية الثالثة زادت من أهمية وعدد مراكز التفكير في العالم، خاصة مع اتجاه الدول إلى الحوكمة والعمل على البناء المؤسسي للدولة وبنيتها، لذلك بات من الضروري اللجوء إلى مراكز التفكير التي تقدم النصيحة والمشورة، بالإضافة إلى الخبرات لرجال الدولة، فليس من الضروري التخصص لصانع القرار، وبالتالي باتت هذه المراكز معينًا لصانع القرار في العديد من القرارات، كما أن لهذه المراكز دورا كبيرا في توفير جهدهم ووقتهم، حيث ينصب عملهم على الاهتمام بدراسة المشاكل والظواهر التي تواجه الدولة دراسة علمية عميقة، ووضع توصيات لصانع القرار.
إذا أرادت الدول العربية أن تحقق التقدم والرفعة والنهضة، فلا بد من السير بالخطوات التي خطتها الدول المتقدمة ومنها تأسيس مراكز فكر حقيقية لا شكلية
أصبحت مراكز Think Tanks في العالم قادرة على تحويل المعرفة والعلم والخبرات إلى حيز السياسة، وعلى توفير بدائل مميزة لصناع القرار، حيث اعتمدت الدول وصانعو القرار والسياسيون على بعض هذه المراكز وعلى بعض الخبراء والباحثين فيها لإجراء المقابلات الإعلامية، وذلك للترويج لقضية معينة، أو للتعبير عن موقف بعض الأطراف حول قضايا أو إشكالات سياسية. كما تلعب مراكز التفكير دورًا فاعلًا في صنع السياسات العامة، وهي كذلك قناة اتصال غير مباشرة أو غير رسمية بين الشخصيات السياسية في الدول.
وظهرت العديد من المؤسسات والمراكز الأساسية في تطوير السيناريوهات وصياغة السياسات ودعم القرار الأميركي، سواء داخل البيت الأبيض أو الكونغرس أو البنتاغون أو الجيش الأميركي، ومن أشهرها المجلس القومي للمخابرات الأميركية، ومجلس العلاقات الخارجية، ومعهد بروكنغز في واشنطن، ومؤسسة راند، وغيرها الكثير، حيث استطاعت هذه الدول أن توجد آليات تمكنها من توفير الميزانيات اللازمة للإنفاق على مراكز الفكر وبسخاء رغم زيادة أعدادها وسعة انتشارها، حيث يتواجد في الولايات المتحدة ما يزيد عن 4000 مركز فكري في مجالات متعددة منها على الأقل 2000 مركز فكري تعمل في ميدان التحليلات السياسية، وحوالي 2500 أخرى مشابهة في العالم، ويصل عدد موظفيها إلى أكثر من 1000 كمؤسسة راند الأميركية والتي تزيد ميزانيتها السنوية عن 300 مليون دولار حسب التقديرات والتقارير السنوية التي تنشرها المؤسسة.
وعلي النقيض تظهر دولنا العربية كطاردٍ للعقول الاستراتيجية ومصدرة لها إلى جميع العالم، ولا تستثمرها استثماراً حقيقيا، إما نتيجة عدم تخصيص الدولة الموارد التي تمكنها من صنع التقدم والنهضة، أو وضع سياسات حاكمة من الدولة التي دائمًا وأبدًا هي ضد تحقيق أي نمو أو تطور داخلها. كما تعتبر الدول الديكتاتورية أو العسكرية من الدول صاحبة السبق التي لا يسمح فيها بأي تقدم أو نهضة؛ لأن الحاكم يعتمد في استمراره في الحكم على نشر الجهل والفقر، وأيضا عدم وجود ديمقراطية حقيقية تتنافس فيها الأحزاب ويكون نتيجة هذا التنافس، نظام قوي يعتمد على الاستفادة من هذه العقول حتى يضمن انتخابه مرة أخرى لعمل نهضة حقيقية داخل الدولة.
أخيرا إذا أرادت الدول العربية أن تحقق التقدم والرفعة والنهضة، فلا بد من السير بالخطوات التي خطتها الدول المتقدمة ومنها تأسيس مراكز فكر حقيقية لا شكلية، مبنية على أسس علمية ووضع سياسات تساعد هذه المراكز في عملها لا تكون حجر عثرة في طريقها.