الديمقراطية التركية والاستبداد العربي
كلما سقط طاغية ازدادت البشرية سعادةً وتطوّراً. والعكس صحيح أيضاً، إذ كلما برز طاغية أو عاد من جديد، ازدادت البشرية تعاسةً وانحداراً، وبالتالي لحق بالأوطان الخراب والدمار أكثر فأكثر.
خلال السنوات الأربعين الماضية، تمّت دمقرطة العديد من دول العالم، إذ تضاعف تقريباً عدد هذه الدول بين عامي 1974 و1990. ووفقاً، للمفكر صموئيل هنتنغتون، فإنّ الموجة الثالثة من التحوّل الديمقراطي بدأت في البرتغال وإسبانيا خلال السبعينيات ثم اجتاحت دول العالم النامي خلال الثمانينيات والتسعينيات، لتتسارع مع نهاية الحرب الباردة. ومع ذلك، إنّ عملية إرساء الديمقراطية لم تترسخ في الشرق الأوسط بعد.
والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار، لماذا تعذّرت وتعثرت عملية التحوّل الديمقراطي في بلداننا العربية قاطبةً، على الرغم من تنامي القوى المجتمعية الساعية للمشاركة السياسية، وما تشهده بعض الدول العربية من مظاهر تقدم وتنمية ورفاه على كافة الصعد، وذلك في استثناء فاضح من بين جميع دول العالم؟
والمفارقة الكبرى هي أنّه رغم الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مختلف الساحات العربية المطالبة بالتغيير، ورغم حجم الدماء التي أريقت، إلا أنّ تلك التضحيات الجسام لم ينتج عنها بالواقع سوى عودة الدكتاتوريات العربية من جديد. فهل المنطقة العربية عصية على التغيير؟ وهل نحن استثناء من بين كلّ شعوب الأرض؟ ثم كيف للدولة التركية المجاورة ذات الغالبية المسلمة، وذات التاريخ المشترك، أن تشهد اليوم هذا العرس الانتخابي، بينما نفشل نحن في تحقيق ذلك؟
التباينات في مستوى الديمقراطية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في العالم النامي لا تختلف اختلافاً كبيراً في ما بينها
في دراسة تجريبية، قام بها كل من ألفريد ستيبان وجرايم ب. روبرتسون (2003)، قارنا خلالها الأداء السياسي للدول الإسلامية في الفترة من 1973 إلى 2002، حيال العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، فوجدا أنّ التباينات في مستوى الديمقراطية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في العالم النامي لا تختلف اختلافاً كبيراً في ما بينها.
مع ذلك، فقد وجدت الدراسة فرقاً شاسعاً، بين الدول العربية وغير العربية عند مقارنة مستوى الديمقراطية وفقاً للقدرة التنافسية الانتخابية والحقوق السياسية والمدنية وما شابه، وخلصت الدراسة إلى أنّ "الدولة غير العربية ذات الأغلبية المسلمة كانت أكثر قابلية بـ (20) مرّة لتكون قادرة على المنافسة الانتخابية من الدولة العربية ذات الأغلبية المسلمة". وعلى الرغم من أنه قد يكون هناك "عجز في الديمقراطية" في الدول ذات الأغلبية العربية، إلا أنّه لا يوجد ذلك في 31 دولة ذات أغلبية مسلمة غير عربية، وفقاً لما خلصت إليه الدراسة من نتائج. وبذلك، فإنه يمكن الاعتبار أن غياب الديمقراطية في هذا الجزء من العالم سببه الثقافة العربية وليس الدين، وبالتالي فإنّ الفجوة الديمقراطية عند المسلمين هي في معظمها فجوة عند العرب فقط.
وعليه، فإنّ السبب الحقيقي لعدم تحقق التحوّل الديمقراطي المنشود في الدول العربية، إنما يعود إلى الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية بالدرجة الأولى، أي ثقافة الاستبداد بالتحديد، والتي تقوم بغرسها الأنظمة العربية في عقول الصغار والكبار على حد سواء، وبالتالي ليس للدين ذلك الأثر الكبير في كبح هذا التحوّل، كما يتذرع حكام ووعّاظ سلاطين هذه الأمة، وكلّ ذلك من أجل التمسّك بالسلطة، حتى لو كانت على أجساد الشعوب وجثث الأوطان.
ثقافة الاستبداد هذه، يساهم في تكريسها المزيد من الثروات والمال وحراسة العسكر، إذ، تسير بلادنا العربية، خلافاً لكلّ أمم الأرض التي تعتبر أنّ الجيش إحدى مؤسسات الوطن، التي تملكها الأمة وليس السلطة الحاكمة، وتكمن مهمته الأساسية في حماية الوطن من أي عدوان خارجي، عدا عن أنه يعتبر في حياة الدول عبارة عن بيضة القبان من خلال المحافظة على التوازن السياسي والاجتماعي بين جميع الفرقاء. وبالطبع كي يتمكن هذا الجيش من أداء تلك الرسالة المقدسة، لا بد من أن يحافظ على حياده التام، وعدم التدخل في شؤون السياسة. ومن هنا اقتضت الضرورة لدى الدول التي تنهج النهج الديمقراطي الفصل بين المؤسستين العسكرية والسياسية، على اعتبار أن لكل منهما هدفه المحدّد.
الفجوة الديمقراطية عند المسلمين هي في معظمها فجوة عند العرب فقط
ويكفي هنا أن نتذكّر المواقف الوطنية لكلّ من الجيشين التونسي والمصري، في قرار التخلّي عن دعم الدكتاتور في اللحظة الحاسمة من حياة الشعبين، ما وفّر على البلدين المزيد من إراقة الدماء وعدم التهديم والمحافظة على مقدرات الوطن وسيادته.
من جهة ثانية، ثمّة أمم كان للمستبدين والعسكر الفضل الأساس في وضعها على سكة الدول، لذا من غير الإنصاف وضع جميع المستبدين في خانة واحدة، وتركيا مثل جيد هنا، وهي المتشابهة جداً بتركيبتها المجتمعية والدينية والإثنية مع مجتمعاتنا العربية، خصوصاً المجتمع السوري منها، بحكم الجوار من جهة، والتاريخ المشترك والطويل من جهة أخرى. ومن يتابع مسلسل "حريم السلطان" التركي الذي تخلّلته المكائد وذبح الأبناء، ودور النساء في حياة السلاطين، يدرك ذلك، وسيُدرك مدى التشابه بين المجتمعين، (التركي والعربي). لكن الفارق الوحيد هو أنّ تركيا جاءها رجل مخلص اسمه مصطفى كمال أتاتورك، لم يحكم تركيا نصف قرن، كما حال الجوار السوري، ولم يعتبر الوطن مزرعة يمكن توريثها للأبناء، وإنما حكمها فقط 16 عاماً، استطاع خلالها أن يضع البلاد على سكة الدول. وبدوره، استطاع الرئيس السوفييتي الأسبق، جوزيف ستالين، وعلى الرغم من شدّة طغيانه، استطاع أن يحافظ على الإمبراطورية السوفييتية من الانهيار، وأن يهزم جميع الجيوش الغازية.
ختاماً، إنّ مئات بلايين الدولارات التي أنفقها العرب على بناء الجيوش وتشييد القلاع والسجون! لو سخّروا 5% منها فقط في بناء الإنسان وإقامة دولة القانون لانتصروا جميعاً وانتصرت معهم الأوطان.
في عام النكبة 1948، دعا الملك الأردني شيخاً ضريراً كي يَعِظ الجيش الأردني المتأهب مع بقية الجيوش العربية لتحرير فلسطين، كان هذا الجيش تحت قيادة الضابط الإنكليزي، جلوب باشا، وقف الشيخ الضرير بجوار الملك، وهو لا يرى شيئاً، صمت للحظات فيما أنظار الكلّ وآذانهم معلّقة به، ثم صاح منادياً: "أيها الجيش، ليتك لنا"!