"الذات تصف نفسها" لجوديث بتلر
يمكن اعتبار كتاب "الذات تصف نفسها" للفيلسوفة جوديث بتلر مُحلّلاً بالدرجةِ الأولى للعديدِ من الفلاسفة الذين حاولوا وصف الذات وتكوُّنها وتشكلها في المجتمع، وفيه حاولت الكاتبة طرح منظورها الخاص بعد التحليل، في الجمع والتفرقة بين بعض النقاط والنظريات التي ضمَّنتها في الكتاب، لذلك وجدته كتاباً مُهماً للوقوفِ على بعض أهم النظريات الحديثة التي حاولت تقديم الذات وفهمها من زوايا مختلفة، استناداً إلى نظرياتٍ تاريخية ونفسية عديدة.
تحدّثت الكاتبة في البدايةِ عن مفهومِ العنف الأخلاقي المُمارس على الفرد في مجتمعه، والذي يصدر عن النظرية الاجتماعية الكُلّية، والتي تفشل في مراعاةِ الخصوصية الثقافية وتكوُّن الأنا في السياق الاجتماعي تبعاً لمعايير خُلُقية خاصة، ومن هنا تناولت نظرية الفيلسوف فريدريك نيتشه في أنّ نظام العقوبات في المجتمع يدمج الغضب في الذات فيُنتج ضميراً مُثقلاً ناقماً ومنتقماً، يتبع الفعل الأخلاقي خوفاً من العقوبة فحسب لا قناعة بجدواه، بينما يجد ميشيل فوكو أنّ الذات جزءٌ من النظامِ المُنتج للعقوبات، وأنّها تتشكل في نقدِها لهذه المنظومة وهذه القيم، لذلك يرى فوكو أنّ الفعل الخُلُقي نتاج جماليات النقد للأنا الفاعلة والمبدعة، والتي تبدأ بنقدِ نفسها وإدراك العتمة في داخلها، الأمر الذي يستدعي المسؤولية الأخلاقية تجاه نفسها والآخرين.
ومن ثم تسرد الكاتبة رأي فوكو في تشكّل الذات عبر نظام الحقيقة الذي يؤطّر وجودها ويسهم في تشكلها ومقولاتها، وحتى نقدها لنفسها والأطر الخارجية، ولأنّ نظام الحقيقة متعلّق بالاعتراف بالذاتِ في المجتمع، لا بوجودها بالصورة التكوينية في المقام الأوّل، فإنّ نقدَ الذات يظلّ اعتراضاً على العناصرِ التي نعرِّف أنفسنا من خلالها، فالأنا والآخر يعرِّفان ذواتهما ووجودهما تبعاً لمعايير اجتماعية متمثلة في بنية خطابية لغوية، واقعة في إطارٍ موضوعيٍ خارجٍ عنهما، لا يأبه بإنسانيتهما ولا بإرضائهما، ويحتكم فقط لقواعده ونظمه الموضوعة سلفاً. لذلك يكون سرد المرء لذاته في هذا الإطار مبتعداً عنه بالضرورة، غريباً لا يخضع إلى نيَّته أو خُلُقه، ويظلّ خيالياً مُحتملاً لا يصيب عين الحقيقة التي هي أنا، بل لا يكون هناك سردٌ مُعبّر بدرجةٍ دقيقة عنّي، لأنّ الذات ليس من طبيعتها السرد، وعندما تنوي ذلك فإنّها تحتكم إلى بنيةِ الخطاب القائمة لتحقيق ذلك، والتي لا يكون لها يدٌ في تكوينها، ومن هنا يكون الانكشاف على الآخر في حدّ ذاته معوِّقاً لمحاولتي التعريف عن ذاتي: "لا أستطيع أن أكون حاضرة بالنسبة لزمانية تسبق قدرتي على تأمّل ذاتي، وأيّة قصة يمكن أن أقدمها عن نفسي لا بد أن تأخذ هذا اللا تكافؤ التكويني بنظر الاعتبار، وهو ما يقرر الطريقة التي تصل بها قصتي متأخرة عن موعدها، تغفل عن بعض البدايات التكوينية والشروط المسبقة للحياة التي تسعى إلى سردها. وهذا يعني أن سردي يبدأ من منتصف الحبكة، بعد وقوع العديد من الأشياء التي تجعلني وقصتي محتملي الوقوع في اللغة. أنا منهمكة في حالة استعادة وإعادة تكوين دائمة، ومتروكة لنسج الحكايات الخيالية وابتكار خرافة الأصول التي لا أستطيع معرفتها".
وعند إدراكِ المرء النقاط العمياء في نفسه والآخرين، فإنّه يفهم ماهيةَ العنف الأخلاقي المُمارس على الفرد، إذ يُطلب منه تقديم سردية لذاته أمام غيره. وفي المقابل، يكمن الفعل الأخلاقي في إدراكِ الآخر ضمن مرونةٍ لغويةٍ خاصة بذاتٍ لا يمكن التعبير عنها، وفي الوقت نفسه تظلّ في محاولاتٍ مستمرة لهذا التعبير. أمّا الاعتراف بالآخر، فيكون تجميداً له في صورةٍ واحدةٍ تنفي عنه مرونته وجوهره الإنساني غير القابل للاختزال، ولا يكون سوى وأدٍ للرغبة في التعرّف إليه، أي لا يجب أن تُشبع رغبتنا في معرفة الآخر كي لا نقع في فخ الاعتراف به: "يكون الإشباع نفسه أحياناً الوسيلة التي يتخلّى فيها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع".
عند إدراك المرء النقاط العمياء في نفسه والآخرين، فإنّه يفهم ماهية العنف الأخلاقي المُمارس على الفرد إذ يُطلب منه تقديم سردية لذاته أمام غيره
أما الحكم على الآخر، فهو حكمٌ كذلك على الذات، من حيث إنّها نقيض ذلك، الأمر المتجاوز لاعترافنا بالمناطق المعتمة فينا، أمّا إنْ كان لا بدَّ من الحكمِ عليه، في إطارِ الإجراءات المُلزمة، فيجب أن يستند الحكم إلى معرفتنا بالآخر وإدراك التشابه بيننا وبينه، ويجب ألّا تكون إدانته مفضية إلى نزع الحياة منه أو الاعتراف المجتمعي، بل يجب أن يستند نقدنا لسلوكه إلى اعترافٍ بحياته ليظلَّ سلوكنا أخلاقياً، ومن هنا تكون ذروة الفعل الأخلاقي في أن نمنح الآخر الحياة في الوقت الذي نملك فيه كامل القدرة والقوة على نزعها منه.
تناولت الكاتبة كذلك مفهوم التحليل النفسي الذي يقصد إلى تحقيق تحويلٍ لدى المريض بأن يسرد نفسه غير القابلة للسرد، وتحويلاً مضاداً لدى المُحلّل في ألّا يكون موضوعاً في فضاءِ المريض، بل ذاتاً فاعلة، فينتج عن التحليل ظهور لاوعي المريض الغريب عنه والمُمثل في الآن ذاته للحياة اللا واعية التي يعيشها، الأمر الذي يثبت أنّ الأنا عملية علائقية في المقام الأوّل، تُنتج الخطاب المستمر بينها وبين محيطها. لذلك يُمثل الأصل الاجتماعي العلائقي للفرد عائقاً أمام تقديمه لذاته، بل عائقاً كذلك أمام سرديته عن نفسه، ولأنّ الأنا تكون متوجّهة إلى الآخر فإنها تُخضع سردها عن ذاتها إلى بنيةٍ خطابيةٍ اجتماعيةٍ معمول بها، بحيث يُطلب منها خلق الاتساق في هذا الخطاب، وفي هذا يتمثل عنف أخلاقي في تهميشِ انعدامِ الاتساق في تكوين الذات ومطلبتها، في الوقت نفسه، بضمانه في سرديتها. لذلك فإنّنا عندما نطلب من المريض الخروج بقصةٍ متسقةٍ عن حياته، فإنّه سيفشل في ذلك إلّا إنْ ابتعدَ عن ذاته واضطر إلى سردِ لا وعيه الذي لا يعرف عنه شيئاً. ومن هنا فالإنسان عاجز عن وصف ذاته، بل إنّ محاولاته تظل تنفي نفسها أثناء السرد: "كلما زاد ما أرويه تعزّز الدليل على تضاؤل قدرتي على الوصف. إن ’الأنا‘ تدمر قصتها الخاصة، على الضدّ من كل نواياها".
لذلك يكون التعبير اللفظي اللا سردي مُمثلاً للارتباك الذي يصيب الذات في فترة تكوينها، واصطدامها بالآخر وإدراك أنّ، حتى الغرائز الأولية، تكون نتاج تأثرها بالآخرين السابقين لها في الوجود، لذلك يكون الحُب مفهوماً ملتبساً، ويكون من الساخر أن تُعلن الذات ملكيتها لنفسها.
ثم تنتقل الكاتبة إلى زاوية أخرى للنظر، فتستقي من بعض الفلاسفة، كإيمانويل ليفيناس وتيودور أدورنو وغيرهما، نظريتهم حول المسؤولية الأخلاقية للأنا، فلأنّني أتشكّل كمفعولٍ به متأثرة بالآخر، ولأنّه يحتلني ويستبدل بوجودي وجودَه، فإنني أطوّر حساسية أخلاقية تجاهه تجعلني مسؤولة عنه، لذلك يربط ليفيناس بين الأنا كمفعولٍ به وخاضعة للتغيير وبين المسؤولية الأخلاقية التي تحملها تجاه الآخر، والتي تسبق خيارها ووجودها في آن: "نحن لا نتحمل المسؤولية عن أفعال الآخر كما لو كنا نحن من قام بها. على العكس، نحن نؤكد اللا حرية في قلب علاقتنا، لا أستطيع أن أتنصل من علاقتي مع الآخر، مهما فعل الآخر، ومهما كنتُ أريد".
كلّما حاولنا التعرّف إلى ذواتنا وإطلاق المقولات المتعلّقة بها، وجدناها تنساب من بين أيدينا أو تدير لنا ظهرها مبتعدة، عصية دائماً على الوصف والحصر
وتتابع الكاتبة عرض نظرية إيمانويل ليفيناس حول الجوهر اللا اضطهادي لدولة إسرائيل، وتغاضيه عن الأنطولوجيا التاريخية لأجل وضع إثباتاتٍ نظريةٍ متحيّزة، منتقدةً نظريته بالأدوات ذاتها التي عمد إليها لإثباتها في المقام الأول، ثم حاولت الكاتبة إثبات موقع المسؤولية التلقائي الذي نجد ذواتنا فيه، والمنبثق عن معاناتنا وعلائقيتنا التي تربطنا بمن يضطهدنا، وترى بأنّ الفاعلية الإنسانية كامنة في موقفنا تجاه هذه المسؤولية.
يرى ليفيناس أنّ عبوديتنا تجاه الآخر تجعل من حبّنا له أعمى، وعندما يحاول الإنسان التخلّص من هذه العبودية فإنه يصير لا إنسانياً، ذاك أنّه يرى جوهر الإنسانية في مقاومةِ الادعاء بوجود "الحق" لدى الإنسان في ألا يُصاب بالأذى من الآخر. ويرى أدورنو أنّ تأكيد الذات يكون حمايةً لها من الآخر، وعزو الأخلاق إليها رغم أنّها هي نفسها مُشكلة طارئة على النظرية الأخلاقية. ويوافق أدورنو فوكو في أنّ الخطأ مكوّن من مكوّنات الذات، وأنّ الإرادة الفاعلة والنابعة من الذات تقطع صلةَ المرء بعالمه الاجتماعي.
يرى فوكو أنّ التعبير عن الذات واقع بالضرورة في إطارِ نظامِ حقيقةٍ اجتماعي مُعتمد، تستعين به الذات لتقديم وصفٍ لنفسها، وإثر ذلك تفقد جزءاً منها متعلّقاً بذاتيتها الإنسانية، وفي هذا يتمثل الثمن الذي تدفعه مقابل التحوّل إلى موضوعٍ للبحث، أي في مقابل تقديم حقيقة عن نفسها، فتتخلّى عن نقدها لبنية الخطاب ونظام الحقيقة وتعلّق ثقتها بهذا الوسيط اللاإنساني لأجل التمثل في الواقع الاجتماعي.
يتحدث فوكو عن منحِ اللوغوس الذات شكلاً خطابياً من التعبير، تتمثل فيه وتتأُثر به ويسهم في تشكلها والتعبير عن حدودها وإمكاناتها، ويرى بأنّ معرفة الذات مرهونة بالتوّسع في علاقتنا مع الحقيقة والكلام الخطابي، رغم أنّ تعبيرنا عبر الخطاب يكون حول ذواتٍ لا نملكها، لذلك تمثل الذات مشكلة للفلسفة الأخلاقية لأنّها تكشف عن شروط تكوّنها الأصلية وصيرورتها عبر أشكال الخطاب. وتشير الكاتبة إلى خطأ نيتشه في عزوه الأخلاق إلى التحوّلات الداخلية للوعي، فهي مرتبطة بمسؤولية الذات عن الآخر، ونقد الخطاب، والنظام الاجتماعي الذي نتشكّل جميعاً فيه، فالأخلاق تتطلّب منّا الشعور بالمسؤولية حتى في لحظات اللا معرفة والاختلاء بالنفس، حيث تسنح لنا الفرصة في الوقوف على تكويننا الحقيقي وأصول طبائعنا.
الكتاب جديرٌ بالقراءة، وغلافه إحدى لوحات رينيه ماغريت التي تُظهر شخصاً ينظر عبر المرآة إلى نفسه، ليجد انعكاساً لصورته من الخلف، من دون أن يتمكن من النظر في عيني ذاته، الأمر الذي يدور حوله الكتاب بصورةٍ دقيقة، فكلّما حاولنا التعرّف إلى ذواتنا وإطلاق المقولات المتعلّقة بها، وجدناها تنساب من بين أيدينا أو تدير لنا ظهرها مبتعدة، عصية دائماً على الوصف والحصر.