الذباب أيضاً.. يستحق أن ندافع عنه
ونحن نتمشى، صديقي وأنا، وسط ساحة أمستردام التي تشبه ساحة جامع الفنا، لمحنا تجمعاً غريباً. اقتربنا. شابات وشبان يحملون صوراً لغزلان، ولحيوانات نادرة، وشعارات تدافع عن البيئة، وعن الحيوانات.
"حسن، هذا جيّد"، قلت لصديقي ثم تابعت: "إلا أنّه إنساني أكثر من اللازم. أكثر مما نحتاجه نحن. هذا يذكرني بعنوان رواية الروائي الراحل ميلان كونديرا (كائن لا تحتمل خفته")، وبعنوان كتاب نيتشه (إنساني مفرط في إنسانيته). ما علاقتنا نحن بالغزلان التي تهرب بمجرّد أن تقترب منها؟ ثمّ من الأصل، أين هي هذه الغزلان حتى ندافع عنها؟ إنّنا محاصرون فقط بالذئاب وبالثعالب. ذئاب وثعالب من كلّ الأنواع والأصناف، بعضها وحشي وبعضها الآخر متنكّر في زي اللطافة والحضارة. كثيرون في بلدان كثيرة يحتاجون الدفاع عنهم أكثر من الدفاع عن الغزلان. هذا لا يعني أنّي ضد الدفاع عن الغزلان، وعن الليمور، وعن الباندا أيضاً. طبعا لا. سوى أنّي أولاً، مع الدفاع عن المقموعين والمنفيين والسجناء واللاجئين والحمقى والجوعى... إلخ".
اقتربت من الحشد. رفعت يدي عالياً. أثرت انتباههم. صرخت فيهم: "أيها السادة الموقرون. هذا عمل عظيم أن تدافعوا عن الحيوانات، خصوصاً الغزلان. إنّها كائنات لطيفة للغاية ورقيقة للغاية. أريد أن أضم صوتي إلى أصواتكم في الدفاع عن كائن آخر يُعاني هنا من الاضطهاد. إنّه الذبابة. هي الأخرى كائن رقيق وشفاف. تطير بخفة ورشاقة ودقة كطائرة تجسّس من دون طيار، سوى أنها تعاني الأمرين هنا وتوشك على الانقراض. فالذبابة كما تعلمون أيها السادة المبجلون، وكما لا يُخفى عليكم، تحتاج أزبالاً كي تعيش، وهذه البلاد تحارب الأزبال ليلاً نهاراً، حيث يندر أن يرى المرء هنا كومة أزبال أو حاوية مفتوحة أو كلباً نافقاً في الشارع يتعفن، منادياً برائحته الشهية اللذيذة جحافل الذباب الجائعة. إنه بلد نظيف أكثر من اللازم، ومعقم كمستوصف، إلى حدّ أنّ المرء يشعر هنا أنّه داخل مصحة خاصة وباهظة، وأنّ دور الدولة الوحيد هو تقديم الحقن للمواطنين. يجلس المواطن بكمامته على كرسي نظيف جداً ومعقّم منتظراً الحقنة. ما مصير الذباب بعد كلّ هذا في نظركم؟ ماذا سيأكل؟ وماذا سيشرب؟ وأين سينام؟. انظروا، السماء معقمة أيضاً، وخالية من أيّ ذباب!".
لست ضد الدفاع عن الغزلان والليمور وعن الباندا أيضاً. سوى أنّي أولاً، مع الدفاع عن المقموعين والمنفيين والسجناء واللاجئين والحمقى والجوعى...
تقدّمت في اتجاه فتاة جميلة تعتمر قبعة وترتدي تيشيرتاً أبيض جميلاً، مرسوم عليه غزال، وسألتها: "أنت يا آنسة، هل سبق لك أن رأيت ذبابة؟".
أجابتني: لا.
سألت شاباً، عيناه زرقاوان يحمل لافتة كُتب عليها: "أنقذوا الباندا". سألته: "أيها الرفيق، لديّ سؤال لك: ألا تحب الذباب؟".
أجاب بعد تردّد واضح: "نعم أحبّه".
لم أفهم جيداً ما معنى أنّه يحبّ الذباب.
رفعت يدي من جديد، وخاطبت الجميع، وقد تحمّست أكثر: "لقد اتفقنا إذاً أيها السادة، الذباب أيضاً يحتاج مدافعين عنه. إنّه حشرة تسمع وترى وتحسّ، حشرة تتألم وتتعذب بسبب النظافة. أستأذنكم أن أرسم ذبابة على ورقة، وأن أنضم إلى تظاهرتكم هذه. دافعوا أنتم عن الغزلان وسأدافع أنا عن الذباب".
لاحظت أنّ جمهرة المتظاهرين قد أخذت تتفرّق، محدقين فيّ بامتعاض، بينما أعجب بعضهم بخطبتي. صرخ شاب في مكبّر الصوت: "معه حق. لماذا تركنا الذباب وفكرنا في الغزلان؟".
أضافت شابة، شعرها غلاميّ وبنفسجيّ: "أنا أكره الذباب إلا أنّي لست ضد حقوقه. علينا المطالبة بتوزيع عادل للأزبال على الطرقات وأمام المنازل...".
سحبني صديقي من مرفقي. ابتعدنا. قال ممتعضاً: "لقد أفرطت في الشرب يا صديقي!".
أجبته بعد أن توقفت عن المشي، وحدقت فيه بعمق: "يبدو واضحاً، ودون شك، أنّك أنت أيضا عنصري ضد الذباب يا صديقي!".