الذكاء الإبداعي.. لماذا؟
بدايةً نطرح السؤال الآتي: ماذا يفعل المُدرّسون في علاقتهم بالمتعلّمين؟ يقومون بما يُسمى في الأدبيات التربوية: أجرأة العملية التعليمية-التعلّمية، أي إنّ الأستاذ يُعلّم والتلميذ يتعلّم. يفعلون ذلك وفق بيداغوجيات محدَّدة وديداكتيكات خاصة، والهدف طبعاً، كان ولا يزال، تنمية قُدرات المُتعلّمين لكي يتمكنوا من التعامل مع المُشكلات المرتبطة بعمليات التحصيل الدراسي، وبتقويمات الإنجاز المدرسي، من قبيل: حلّ المسائل الرياضية أو المسائل المتعلقة بالعلوم والتقنيات، أو كذلك فهم فقرات من نصوص أدبية أو فلسفية أو تاريخية واستخراج آلياتها اللغوية والحجاجية.
الخلاصة إذن أنّ أدوار الأساتذة تتحدّد في العمل على تطوير مجموعة من القدرات لدى المتعلمين، من أجل استخدامها في اكتساب وتخزين المعلومات والمعارف الجديدة، والتي تساعدهم على عمليات التحليل والتركيب والمقارنة، على اعتبار أنّ المعرفة، أساساً، نشاط استذكاري يقوم على ترميز المعلومة وتخزينها واسترجاعها.
ولهذا السبب ركّزت الأبحاث في السيكولوجيا المعرفية على مشكلة الذاكرة، حيث ميّزت بين ذاكرة الاشتغال، أي قصيرة المدى، وذاكرة التخزين، أي بعيدة المدى، إذ كان الهدف المطلوب، في نظامنا المدرسي، أنْ يمتلك المُتعلّم القدرة على معالجة مُشكلات مألوفة لديه، بل ويملك فكرة مسبقة عنها، ولكي يتمكّن من ذلك كان يحتاج إلى ذكاء من نوع مُعيّن، وهو ما يُسمى في الأدبيات التربوية المعاصرة بالذكاء المعرفي-التحليلي، ولهذا اهتمّت به المدرسة التقليدية، حيث تمّ التركيز، حينها وطوال القرن العشرين، على ما يسُمى "مُعامل الذكاء"، باعتباره المعيار الأسمى لقياس درجة النجاح المدرسي، وتكفي الإشارة هنا إلى الروائز السيكولوجية لقياس درجة التحكم في الكفايات اللغوية-المنطقية-الرياضية، وهي بالمناسبة تُشكّل، فقط، مهارات النصف الأيسر من الدماغ. ذلك أنه بفضل الأبحاث الجديدة في العلوم العصبية اتضح أنّ الدماغ البشري مُنظّم على شكل مناطق اشتغال مختلفة، وهكذا فكلٌّ من جانبي الدماغ، الأيسر والأيمن، يختزن ذكاءً يُميّزه وله مهاراته الخاصة به.
المدرسة في مفهومها التقليدي لا تعمل سوى على تنمية وتغذية المنطقة اليسرى من الدماغ لدى المتعلمين، أي مهارات الذكاء المعرفي-التحليلي، والذي، بات واضحاً، أنه لا يعكس جميع قُدرات المتعلّم
تَبيّن إذن أنّ المدرسة في مفهومها التقليدي لا تعمل إلا على تنمية وتغذية المنطقة اليسرى من الدماغ لدى المتعلمين، أي مهارات الذكاء المعرفي-التحليلي، الذي، بات واضحاً، أنه لا يعكس جميع قُدرات المتعلّم، لقد تمّ إهمال مهارات الجانب الأيمن من الدماغ، ولذلك عمِلت المدرسة المعاصرة على توسيع مجال الذكاء ليشمل تنمية مهارات النصف الأيمن أيضاً، لكي تجعل المتعلّم قادراً على استخدام كلّ القُدرات اللازمة للنجاح في الحياة بصفة عامة، وليس فقط النجاح المدرسي.
هذا الأمر يحتاج من مؤسساتنا التعليمية أنْ تعمل أيضاً على تنمية نوع آخر من الذكاء، وهو ما يُعرف في نظريات سيكولوجيا المعرفة بالذكاء الإبداعي، أي جعل المُتعلّم قادراً على التعامل مع المشكلات الجديدة وغير المألوفة لديه، فمن المعلوم أن تنمية الذكاء المعرفي-التحليلي في مجال مُعيّن سيُقوي، دون شك، الإمكانات الإبداعية لدى المتعلّم، وكذلك فإنّ تشجيع الإبداع لديه سيكون له انعكاسات إيجابية على الذكاء المعرفي-التحليلي، وتكفي الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى أنّ تطوير المعرفة بالتقنيات السردية لدى المتعلّمين في المجال الأدبي سيكون مفيداً جداً لهم في الإبداع القصصي أو الروائي، ذلك أنّ الإبداع والذكاء وجهان لظاهرة واحدة.
فإذا كان القرن العشرين قد تميّز، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ببلورة "مُعامل الذكاء" الذي حدّد النجاح المدرسي من خلال تصنيف المتعلّمين، حسب قدراتهم في التفكير والتحليل والبرهنة والذاكرة وسرعة معالجة المعلومة، فإنّ القرن الواحد والعشرين اعتبرَ الكفاية الإبداعية إحدى أهمّ الكفايات المفتاحية المطلوبة في عصرنا، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ثلاثة مؤشرات على ذلك:
- المؤشر الأول يتعلّق بـ"البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ" المعروف اختصاراً بـ(PISA)، والذي اقترح ضرورة تقويم الكفايات الإبداعية لدى المتعلمين في دراساته الميدانية المُقبِلة.
- المؤشر الثاني له علاقة بالمنظمة الأوروبية المهتمة بعالم التربية والتعليم في الاتحاد الأوروبي، التي اعتبرت أنّ الكفايات الثماني، المعروفة في النظام المدرسي الأوروبي، أصبحت تتطلب إدماج البعد الإبداعي، وتنميته في كلّ كفاية من الكفايات المفتاحية الثمانية المُعتمدة في الأنظمة التربوية المعاصرة.
- المؤشر الثالث يرتبط بتوصيات التيار البيداغوجي المعاصر الذي يجتمع تحت عنوان "مهارات القرن الواحد والعشرين"، حيث اعتبرَ أنّ على المدرسة المعاصرة أن تضيف كفاية خامسة إلى الكفايات الأربع السابقة، التي كانت تعمل على تنميتها، أي القدرة على التفكير النقدي، القدرة على التواصل، القدرة على حلّ المُشكلات، والقدرة على التعاون. وهذه الكفاية الخامسة هي القدرة على التفكير الإبداعي المُبتكر والخلّاق، أي التفكير بشكل مختلف والعمل على تجريب أفكار جديدة في أشكال منتجات إبداعية ملموسة...
كل هذا النقاش العالمي حول الكفايات الإبداعية يفرض علينا ضرورة طرح السؤال عن كيفية جعل مؤسساتنا التعليمية، على المستوى العربي، مجالاً لتطوير الذكاء الإبداعي؟ ما دامت الفصول الدراسية بسبب ضغوط البرامج تقتصر، فقط، على تنمية الذكاء المعرفي-التحليلي، وفي هذا الصدد أودّ، فقط، الإشارة إلى نقطتين أساسيتين ذات صلة بالموضوع:
- الأولى تتعلق بضرورة العمل على تنمية المهارات التي تجعل المتعلّمين قادرين على استعمال وتنظيم معلوماتهم ومعارفهم السابقة في التعامل مع المشكلات الجديدة وليست المألوفة، وذلك بشكل إبداعي وخلاّق، مقارنةً بما يفعلونه، عادة، في الفصول الدراسية حيث يكونون، باستمرار، أمام مشكلات مألوفة ويملكون فكرة مسبقة عنها. مثل هذا الأمر هو الذي سيُمكّنهم من اكتساب مهارات جديدة تُحفّز الحسّ الإبداعي لديهم.
- الثانية تتعلق بالقدرة على تحويل هذه المهارات الجديدة، التي اكتسبها المتعلّمون في مواقف لم يسبق لهم مواجهتها من قبل، إلى مهارات آلية، أي لم تعد تحتاج إلى الاستغراق كثيراً في استخدام الذاكرة، وهذا الأمر مفيد جداً لمُتعلّمينا من أجل فهم المواقف وإبداع الحلول في الحياة اليومية، بطريقة شبه آلية، إذ عبْر امتلاك قُدرة التحويل الآلية هاته يكتسبون بالتدريج ذكاءً إبداعياً وعملياً: إنه ذكاء الحياة اليومية الذي يجعلهم، باستمرار، قادرين على تحديد جوانب القوة لديهم لكي يعملوا على تدعيمها، واكتشاف جوانب الضعف لكي يجتهدوا في تصحيحها.