الرياضة وسؤال القيم
تعتبر كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية على مستوى العالم، حيث تقول الإحصائيات إنّ هناك أكثر من مئتين وخمسين مليون لاعب حول العالم يلعبون الكرة. ووفقاً لموقع worlddatlas، يبلغ عدد متابعي الساحرة المستديرة أربعة مليارات شخص حول العالم، ويصل عدد المهتمين بها باستمرار إلى أكثر من ملياري شخص. وهناك أيضاً مليارات من الدولارات تُضخ سنوياً من طرف الجماعات والدول لتنظيم الفعاليات الكروية أو إتمام صفقات البيع والشراء، بدءاً من اللاعبين، إلى الملابس والمشروبات والألعاب، لتنتقل لعبة كرة القدم من المستوى الترفيهي إلى المستوى الرأسمالي.
ضمن هذا السياق، هل يمكن أن تحقق الرياضة البعد القيمي؟
ننطلق في الجواب عن هذا السؤال من مسلّمة بديهة تقول إنّ الرياضة عموماً تندرج ضمن عمليات اجتماعية وسوسيوثقافية، ويمكن أن نلمس هذا التداخل في الحضارة اليونانية، حيث احتفى اليونانيون على جبل أوليمبس، موطن كبير الآلهة اليونانية زيوس، برياضات الجري والمصارعة والقفز... ومنه اشتُق اسم الألعاب الأولمبية، حيث شكلت الرياضة القربان الأسمى للآلهة، وأسهمت في فرض سيادة المدن المنتصرة وتعزيز هيمنتها ضمن تحالفات سياسية بين قادة هذه المدن. ويرى كثير من المؤرخين أنّ الألعاب الأولمبية أسهمت مباشرةً في نشر الثقافة الهلنستية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
وبالرجوع إلى السياق المعاصر، نلاحظ أنّ الرياضة، وخاصة كرة القدم، لكونها اللعبة الأكثر شعبية بين نظيراتها، لها أبعاد قيمية وسوسيوثقافية، يمكن قياس حضورها من خلال التظاهرة الكروية الحالية لمونديال كأس العالم 2022 المقامة في قطر.
فرضت قطر مجموعة من القيم خلال استضافتها المونديال، إذ منعت بشكل قاطع الترويج للمثلية وبيع الكحول أو شربها في الأماكن العامة، ووضعت إرشادات لذلك. كذلك أرسى حفل الافتتاح أحد المبادئ الكبرى للتصوّر الإسلامي للتعامل مع الآخر المختلف دينياً وعقيدياً، من خلال الآية الثالثة والعشرين من سورة الحجرات (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، التي تنصّ على الأخوة الإنسانية القائمة على مبدأي التعارف والاختلاف المفضي إلى التواصل الحضاري. إلا أنّ هناك البعض ممن احتج على فرض هذه القيم، ويحضرنا هنا موقف المنتخب الألماني في مباراته مع نظيره الياباني أو مواقف أخرى لمشجعين يشجبون منع بيع الخمور. إننا هنا أمام تدافع قيمي بين نموذجين، النموذج الغربي والإسلامي أو العالم ثالثي، كما ينظر إليه من طرف الغرب نفسه.
ساهم مونديال كأس العالم في قطر في إبراز الجانب الثقافي الذي تزخر به دول المنطقة على مستوى اللباس والأكل والعادات
لقد أسهمت هذه الاحتفالية الكروية أيضاً، في إبراز الجانب الثقافي الذي تزخر به دول المنطقة على مستوى اللباس والأكل والعادات... على غير ما أشيع وكرّس من طرف السياسات الاستشراقية، وترجم لاحقاً في الإعلام والسينما من صور نمطية حول العربي "المتطرف".
إنّ المقاصد الكبرى التي يهدف إليها مونديال قطر على مستوى القيم ترمى إلى البحث عن مشترك إنساني قائم على فكرتي الاختلاف والتعارف المصحوب بالاعتراف المتبادل بالوجود الذي يؤسس للمطابقة والاختلاف مع الآخر، ويلغي فكرة تصادم الحضارات، وما تبرّره من صراع قائم على رفض الاختلاف والتأسيس للنموذج الواحد.
أخيراً، يمكن القول إنّ الرياضة بصرف النظر عما تقدمه من ترفيه، فإنها تسمو لأن تكون أحد المداخل الكبرى لتوحيد الشعوب وتأسيس المشترك الإنساني، وفق مبدأ حوار الحضارات والثقافات.