السوريون يستهزئون بالخدع السينمائية
سمر رمضاني (3)
اتصل بي أبو سعيد، في حوالي الساعة التاسعة مساء. قال لي إن مساء مدينة إدلب، هذا اليوم، كان عامراً بالرعب، فقد قصف الطيران السوري الطرف الشرقي من المدينة، في وقت الإفطار، وسكان الحارات القريبة من مكان القصف تركوا موائد الإفطار، وخرجوا من بيوتهم راكضين، مذعورين. وعلق بقوله:
- كنا، يا أبو مرداس، في سن الشباب، نذهب إلى حلب، ونشاهد، في سينما فؤاد، أو في سينما روكسي، فيلماً أجنبياً يصور إحدى الحروب في مدينة أوروبية، فلا نصدق أن الرعب الذي يعاني منه الناس، في الفيلم، يمكن أن يكون قريباً من الحقيقة.. وأما نحن، هنا في إدلب، فأصبح واقعُنا الفعلي أشد غرابة من أحداث تلك الأفلام، وصرنا نعيش الرعب بشكل يومي، ونرى، بأمهات أعيننا، المشاهدَ التي كانت تُصَوَّرُ بخدع سينمائية.
قلت: أنا، قبل أن أخرج من سورية، عشتُ بعض مشاهد الرعب الواقعية، ففي يوم من الأيام؛ كنت نائماً في بيت أخي، بقرية تبعد عن معرة مصرين حوالي عشرة كيلومترات، وفي الصباح الباكر، صارت تأتينا أصوات اشتباكات بالبواريد والرشاشات والقنابل. ارتبكنا، وخفنا أن تقترب الأصوات منا، وتطالنا تلك الطلقات أو القذائف، أو تجبرنا على الركض في البراري خوفاً على أرواحنا.. وقد استمرت هذه الحالة أكثر من ساعة، حتى خطر لي أن أتصل بأحد معارفي، بالموبايل. اتصلت به، فأفادني بأن جماعة مسلحة من معرة مصرين اشتبكت مع جماعة مدعومة من النظام، شمالي البلدة، وأن قوة عسكرية مدرعة تابعة للنظام اقتحمت مكان الاشتباك، وأنقذت قائد الجماعة المدعومة وصَحْبَه، وأسفرت المعركة عن ثلاثة قتلى. وفي يوم من الأيام، تعرضتُ للتهديد من قائد إحدى المجموعات المسلحة، فسافرت إلى حلب، وهناك صرت أرى بعينيَّ ما لا يمكن تخيله، حتى في السينما. ففي النهار، كانت تحوم طائرات هيليوكبتر فوق المناطق الجنوبية والشرقية من المدينة، وتطلق الرصاص رشاً نحو الأسفل، وكان منظر الرصاص وهو ينزل يبدو مثل التبن الذي ينتج عن عملية التذرية، وفي الليل، كنت أشاهد طلقات المدفعية تعبر غربيَّ الشقة التي أسكنها، باتجاه ريف حلب الشمالي، على هيئة أضواء مزدوجة، متتالية، وللإنسان أن يتخيل أين تسقط تلك القذائف وماذا تفعل بالبشر.
- يا لها من أهوال.
- الهول الحقيقي عشتُه، أنا شخصياً، في أحد أيام شهر رمضان، الذي صادف مع شهر آب / أغسطس 2012. كنا في بلدتي، معرة مصرين، وفي ليالي الصيف الرمضانية، كما تعلم، يطيب السهر، وكان محل شقيقي دريد لبيع إكسسوارات الموبايلات قريباً من دوار البريد.. وعند حوالي الساعة العاشرة ليلاً، جاءت من الشرق مجموعة من الثوار المسلحين، وتوقفوا عند دوار البريد، وأعلن قائدهم أنه سيطلق قذيفة هاون باتجاه إحدى مناطق النظام، وأطلقها بالفعل، ثم غادروا المكان.. وأنا شعرت بالخطر، واقترحت على دريد وبقية الأصدقاء الساهرين معنا أن نغلق الدكان وننصرف، لأن قوات النظام لا بد من أن ترد على القذيفة، وتستهدف المكان الذي خرجت منه، فلم يستجيبوا لمخاوفي، وقالوا إن قذيفة الهاون التي أطلقها ذلك الرجل لا بد أنها سقطت في برية، أو على تلة، ولكن، وبعد أقل من ربع ساعة تحققت نبوءتي، إذ شاهدنا ضوء قذيفة مدفعية قادمة نحونا، فهرعنا مذعورين إلى داخل الدكان، وخلال ثوان سقطت القذيفة، وانفجرت، فأقامت الدنيا بالغبار والشظايا ولم تقعدها. تفقدنا أنفسَنا بعد انقشاع الغبار، فوجدنا أننا لم نتعرض لأية إصابات جسدية، ولكن أحد أبناء الحارة أصيب، وفقد إحدى ساقيه، والزجاج الخلفي من سيارتي التي كانت متوقفة عند الباب طُحن طحناً.
- يا إلهي. وبعد ذلك؟ ماذا حصل؟
- وقعتُ، يومئذ، في أزمة حقيقية، ففي معرة مصرين لا يوجد مكان لتبديل زجاج السيارات، وأنا لا أستطيع دخول مدينة إدلب لأنني مطلوب لأحد الفروع الأمنية، فما كان أمامي غير مدينة حلب، حيث يوجد طريق فرعي خالٍ من الدوريات الأمنية اعتدتُ أن أسلكه، فذهبت إلى حلب اليوم التالي، وأرسلت السيارة مع أحد أصدقائي إلى حي الميدان، وأعادها إليَّ بعدما وضع لها زجاجاً جديداً من الخلف، وسلمها إلي، دفعت له تكاليف هذه العملية، وغادرت حلب، سالكاً الطريق الفرعي نفسه، إلى معرة مصرين، وفي اليوم التالي دخلت إلى تركيا، ولم أعد إلى سورية حتى الآن.
قال أبو سعيد: بما أننا خصصنا الحديث في هذا الاتصال لمسألة التعايش مع المعارك والحروب، سأحكي لك حكاية عن شقيقي الظريف "أبو سالم"، الذي كان مولعاً بالمقالب الهاتفية. فمع ظهور الهاتف المحمول (الموبايل)، كان ثمة تقنية اسمها (بلوتوث)، وبموجب هذه التقنية يستطيع شخص ما أن يرسل مقطعاً صوتياً مضحكاً لأحد معارفه. يقول له: افتح البلوتوث، ثم يرسله. ومن المقاطع التي أحبها أبو سالم، وأرسلها للعشرات من أصدقائه، واحد يتضمن اتصالاً مع رجل ساذج، يتصل به عدة أشخاص في آن واحد، ويذكرون اسمه، ويحكون له أشياء غريبة، وهو يندهش، ويعتقد أنه يوجد شخص مجهول، يحول المكالمات إليه، فيتساءل، في التسجيل:
- مين عم يحول علينا المكالمات بهالشكل هاد؟ مين عم يحول مكالمات؟
مرت على هذه الحكاية سنوات، وقامت الثورة، والنظام صار يقمعها بأسلحة يدوية في البداية، ثم لجأ إلى المدفعية، والصواريخ، حتى وصلنا إلى القصف بالطيران.. وشقيقي أبو سالم كان يواجه هذه المخاطر بالتنكيت، فحينما يسمع طلقات رشاش بي كي إس قريبة، يقول لأولاده: لا تخافوا، لا يموت غير الإنسان اللي خالص عمرُه! ومع دوي أصوات المدفعية يقول لهم: المدفع يهدم جداراً، أو يبعج سقفاً، ولكنه لا يقتل بشراً، فاطمئنوا.. وذات يوم، دخل عليه ابنه الصغير مذعوراً وهو يقول إن طائرة تحوم في سماء البلدة، ويحث أهله على الهرب، فتذكر أبو سالم ذلك التسجيل القديم الذي كان يحول بالبلوتوث، وقال لابنه:
- مين عم يحول علينا (طيران) بهالشكل هاد؟ مين عم يحول طيران؟