الشباب العربي والصمت حول غزّة
يجري في الوقتِ الحالي العديد من المُقارنات بين ما يحدث في الجامعات الأميركية من انتفاضةٍ مساندةٍ للقضية الفلسطينية، وبين حالةِ الجامعات العربية، وصمتها في هذه القضية. أرى أنّ هذه المقارنة غير صحيحة وتحتاج إلى إعادةِ النظر، حيث يتعيّن علينا أن نستعرض ما حدث للوعي العربي، في ما يتعلّق بفلسطين والنضال ضدَّ الاستعمار بأشكاله المختلفة تحت النظام الرأسمالي وأدواته الحديثة، بما في ذلك الليبرالية الجديدة.
ما يحدث في الجامعات الغربية عمومًا ليس ناتجًا فقط عن اللحظة الراهنة، إذ قد تسرَّع ذلك بفعلِ ما يجرى من إبادةٍ جماعيةٍ في غزّة، وما أنتجته آلة الإجرام الصهيونية من قتلٍ ودمارٍ خلال الشهور الماضية، والتي تُبثُّ بشكلٍ حيٍّ عبر الشاشات، مدعومةً بالتضامن الغربي الرسمي، غير المشروط وغير المحدود. ومع ذلك، فإنّنا إذا نظرنا إلى الخطابات الطلّابية والحركات المختلفة في الغرب، سنجد أنّ هناك خطابًا جذريًّا يُواجه السردية الغربية حول القضية الفلسطينية. ويجدر بالذكر أنّ هذا الخطاب ليس بالضرورة هو ما يجمع الجميع، لكنّه أصبح موجودًا بقوة ضمن هذه الحركات، وقد كان للوجود الفلسطيني في حقلِ الأكاديميا الغربية، والعربية عمومًا، دور كبير في تشكيل الحالة التراكمية لِما يحدث اليوم من تغيير في الغرب.
يعود هذا التأثير إلى بداياتِ النكبة في عام 1948 مع ظهورِ مفكرين مثل المفكر الفلسطيني، فرانك السكران، والذي أصدر كتاب "المعضلة الفلسطينية" عام 1948، حيث شرح وفنَّد وتحدّى الرواية الدينية اليهودية لاحتلال فلسطين. تلاه العديد من المفكرين والمفكرات مثل حنّا ميخائيل، وإبراهيم أبو لغد، وإدوارد سعيد، الذين وضعوا القضية الفلسطينية قضيةً محوريةً تحرّريةً في مواجهةِ الاستعمار.
بموازاةِ اقتحام البُعد الفكري والنظري في المجال الأكاديمي الغربي، كان هناك أيضًا اندماج للفلسطينين والعرب في الحركات والنضالات المتعدّدة في الغرب، مثل حراك السود والأقليات المختلفة. وقد أصبح هذا الاندماج مساحةً للنظر إلى ما يجمع كلّ هذه الفئات بعضها ببعض، مما أدّى إلى خلقِ حالةٍ من التفاهم والاعتراف بأنّ تشابك النضالات المختلفة هو السبيل الوحيد لإنتاج العدالة للجميع.
تشابك النضالات المختلفة هو السبيل الوحيد لإنتاج العدالة للجميع
وما نراه اليوم من انفتاحٍ على القضيّة الفلسطينية هو نتيجة لانفتاحِ الفلسطينيين والعرب على قضايا الآخرين. ومن هنا، فإنّ اتساع النظرة إلى ما يجمعنا مع الآخرين، جعلَ الآخرين قادرين على استيعاب قضيتنا باعتبارها قضيةً مركزيةً لهم أيضًا، تتقاطع مع نضالهم. وربّما يكون هذا هو ما يجعل الأمل في هذا الحراك، حتى لو كان لدى فئات محدودة الآن، فوجوده ضمن سياق التقاطع بين القضايا سيعمل على تراكم المعرفة والوعي، والذي بالضرورة سيؤدّي إلى تغيير على المدى البعيد.
ومن جهةٍ ثانية، فإنّ ما حدث في المنطقة العربية كان على النقيض تمامًا، إذ تراجع التضامن والتواصل مع الحركات النضالية الأخرى في العالم، والتي ميّزت النضال في الستينيات والسبعينيات من جهة، ومن جهةٍ أخرى تمّ تمييع القضايا الرئيسية التي تجمع الشباب في المنطقة العربية، وذلك من خلال إنتاجِ قضايا مصطنعة، لا يمكن لأيّ شخص أن يجد فيها نفسه إلّا إذا وجد ما يجعله مختلفًا عن الآخر، سواء عبر الاختلاف الديني، العرقي، الطائفي، العنصري، أو الجندري، وأصبح هذا الاختلاف هو ما يشكّل الخطر الحقيقي عند بعضهم. لذا، فإنّ البقاء والأمن والرفاه لا يأتي إلا من خلال استبعادِ واستعباد الآخرين، الذين لا يتشاركون معي في الأصل وفق هذه الرؤية.
وعلى مدارِ العقودِ السابقة، ظهرت العديد من الشعارات لتعميقِ مفاهيم الإقليمية والدولة القومية والطائفية على حساب الحراك الجامع لكل مكوّنات مجتمعاتنا. فنجد في العديد من الدول ظهور مشاريع مثل "الأردنة" أو "المصرنة". كما ظهرت بعض المشاريع لتفصل المنطقة إلى شرق وغرب، وتحييد دول المغرب العربي عمّا يحدث في الدول العربية الأخرى في الشرق. ولم تتوانَ الدول المختلفة عن الاستمرار في تهميش الأقليّات من غير العرب، وهي التي تُعتبر جزءًا لا يتجزّأ من المنطقة وحضارتها وتاريخها. وذلك في محاولة لفصلِ الشعوب محليًّا بعضها عن بعض، مما أدّى إلى تهميشِ جزء كبير من سكان المنطقة، وفصلهم عن قضاياها، وعمل على تغريبهم، وفي حالاتٍ كثيرة عزلهم عن القضايا المحلية والقومية.
إذا كنّا نريد حراكًا شبابيًّا يتحدّى من أجل فلسطين، فلا بد أن ننتج خطابًا تحريريًّا جامعًا
أسّس هذا الوضع للعديد من التحدّيات التي تُواجه المنطقة الآن، سواء على الصعيد الإقليمي، الطائفي، العشائري، الجهوي، أم في محاولات الانفصال لتشكيلِ دولٍ قومية صغيرة، لن تستطيع العيش في المنطقة بدون أن تكون لها ولاءات خارجية لحمايتها. وقد ظهر ذلك من خلال علاقة مثل هذه الدول مثل جنوب السودان، أو بعض الحركات الكردية مع الولايات المتحدة ونظام الفصل العنصري والاستيطان في فلسطين. ولا يمكن أن نلوم هذه التوّجهات من دون أن ننظر إلى ما قادت إليه هذه الحركات حتى الآن من الانفصال التام عن قضايا المنطقة، وكيف أنّ الأبعاد العنصرية والعرقية التي همّشت الأقليّات، عملت على استثناء هذه المجموعات وتشريع التمييز ضدهم.
وأيضًا، كان لاستخدام الدين دور كبير في تمييع العديد من القضايا. فاستخدام الدين وسيلةً لفصل القضايا هو في الأساس إحدى الأدوات الغربية الاستعمارية، حيث تحوَّل الصراع مع الغرب، إلى حربٍ مرتبطة بالدين وحماية الإسلام، بدلاً من أن يكون صراعًا يتعلّق بسيطرة الغرب، سياسيًّا واقتصاديًّا.
وفي هذا الصدد، كانت المرأة ودورها جوهرًا رئيسيًّا في حالة التمييع وتشتيت النضال، حيث أصبحت محاولة السيطرة على المرأة، أو طريقة لباسها، أو وجودها في بعض المجالات، جزءًا من الخطر المحيط بالمنطقة. لذا أصبح القمع والتمييز ضدّ المرأة إنجازًا وطنيًّا وشخصيًّا لبعضهم، وحقّق هذا هدفين: الأول، استبعاد المرأة وحرمان المجتمعات من طاقاتها؛ والثاني، خلق حالة من الإنجاز الوطني والديني الزائف، يتمثّل في حمايةِ المجتمعات من الأفكار الغربية الدخيلة عليها.
في المختصر، بدون النظر إلى الأسس الفكرية والمعرفية التي شكلت وعي الشباب العربي في العقود الماضية، والتي من أهمها فصل القضايا بعضها عن بعض، وعدم قدرة النخب الفكرية والثقافية على إيجادِ البديل للمعارف المستحدثة، لن نستطيع أن نلوم الشباب العربي. لذا، إذا كنّا نريد حراكًا شبابيًّا يتحدّى من أجل فلسطين، فلا بدَّ أن ننتج خطابًا تحريريًّا جامعًا لا يرى في الآخر، أيًّا كان، خطرًا، بل سندًا يمكن الاتكاء عليه وقت الحاجة. ولن يحدث هذا بدون استئصال ما يُميّع القضايا الرئيسية، والتي تجعل فلسطين جزءًا لا يتجزأ منها.