العمل المرن بين التنظير والتطبيق
أقرّ مجلسُ الوزراء الأردني، في يونيو/ حزيران، نظامَ العمل المرن لسنة 2024، وجاء نظام العمل المرن ليحقّق مجموعةً من الأهداف، تشمل خلق فرص عملٍ جديدة ورفع نسب العمالة والحدّ من معدلات البطالة، وتشجيع الاستثمار وتقليل الكُلف التشغيلية، ومساعدة العاملين على إيجادِ نوعٍ من التوازن بين الحياة العملية والخاصة. ومع أنّني من أنصار العمل المرن، إلا أنّ تجربتي الخاصة تُشير إلى أنّ التطبيق ليس بالسهولة والمباشرة التي يطرحها النص، حيث إنّني عملت عن بعد من المنزل، ووفق ساعات عمل مرنة، مدّة سنتين تقريبًا مع إحدى المنظمات الدولية، وأوّل حقيقة واجهتها هو أنّ العمل المرن يوفر شعورًا زائفًا بالتوازن بين الحياة العملية والخاصة، ويفرض ضغوطًا أكبر من تلك التي يفرضها العمل غير المرن. على الأقل، كانت هذه تجربتي الشخصية، فكيف يتسق ذلك مع جوهر فلسفة العمل المرن القائمة على تحقيق هذا التوازن في عصر الرأسمالية؟ وكيف يمكن العمل على سدِّ الثغرات في هذه النماذج؟
سأتحدّث عن نظامِ العمل المرن الأردني مثالاً. لقد اطلعت على موادِ النظام، وبشكلٍ عام أظّنه خطوةً في الاتجاه الصحيح، ولكن بانتظار صدور التعليمات التي ستوفّر مزيدًا من التوضيح والتفاصيل لموادِ النظام، حيث إنّ الشيطان دائمًا ما يكمن في التفاصيل. ولنبدأ بساعاتِ العمل نفسها. فعلى الرغم من أنّ المادة الخامسة من النظام نصّت على ضرورة تنظيم عقد عمل مرن وموثّق، يحدّد شكل العمل والمهام المطلوبة وعدد ساعات العمل، إلا أنّه عند التطبيق، قد تختلف الأمور والتوقّعات على الأرض، حيث إنّ أصحاب العمل قد يستغلون ترتيبات العمل المرنة للمطالبةِ بساعاتِ عملٍ أطول من دون التعويض عن العمل الإضافي، خصوصًا إنّ كانت العقود فضفاضة، ومعتمدة على التسليمات، حيث يتوقع أصحاب العمل من العاملين إكمال المهام مهما حدث، حتى بعد ساعاتِ العمل المُتفق عليها. وفي هذه البيئة، يمكن أن يؤدّي عدم وجود حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية إلى شعورِ العاملين بالضغط للاستجابةِ لطلباتِ أصحاب العمل خارج ساعات العمل العاديّة.
يوفّر العمل المرن شعورًا زائفًا بالتوازن بين الحياة العملية والخاصة، ويفرض ضغوطًا أكبر من تلك التي يفرضها العمل غير المرن
أما في ما يتعلّق بالخصوصية، فقد نصّت المادة 8 – ه على أنّه يجب على صاحب العمل تحديد آلية الإشراف والتوجيه للعاملين، وهي عبارة فضفاضة قد ينضوي تحتها إحدى أبرز مشكلات العمل المرن، وخصوصًا لو كان عن بعد، كليًا أو جزئيًا، ألّا وهي الرقابة المفرطة، حيث إنّ بعض أصحاب العمل قد يستخدمون أدوات مراقبة متطفلة لتتبّع كلّ تحرّكات العاملين، بما في ذلك برامج التتبّع التي تسجل ضغطات المفاتيح ونشاط الشاشة، وحتى استخدام كاميرا الويب في بعض الأحيان في انتهاكٍ واضحٍ للخصوصيّة. وبعض هذا التوجّه ناتج من توقّع أصحاب العمل أنّ العامل مُتاح طوال الوقت، طالما أنعمنا عليه وسمحنا له بالعمل من المنزل على سبيل المثال، ما يشكّل ضغطًا كبيرًا على العاملين يؤدّي إلى مستوياتٍ عاليةٍ من الإرهاق والتوتّر.
أمّا في ما يتعلّق بالحقوق، فقد أكدت مواد النظام 5، و6، و8، و12 حماية حقوق العاملين ضمن نظم العمل المرنة، ومع ذلك، لم يتطرّق النظام إلى التفريق والتمييز بين العمل المرن والعمل المستقل/الحر (Freelancing)، حيث يقدّم كلا النموذجين ترتيبات عمل غير تقليدية، لكنهما يختلفان بشكلٍ كبيرٍ من حيث هيكل التوظيف والالتزام. فالعمل المرن عادةً ما يُشير إلى الترتيباتِ ضمن علاقة العمل التقليدية، حيث يتمتع العاملون بالمرونة في اختيار ساعاتِ عملهم، أو موقعه، أو كليهما، مع الاستمرار في الحصول على المزايا والحماية التي يتمتّع بها العامل العادي. بينما من ناحيةٍ أخرى، يشمل العمل المستقل/الحر الأفراد العاملين لحسابهم الخاص الذين يتعاقدون على خدماتهم مع عملاء متعدّدين على مشروعٍ أو على أساس العمل ساعات محدّدة، وغالبًا ما يكون ذلك من دون نفس المزايا أو الأمن الوظيفي أو الالتزام طويل الأجل الذي يوفره العمل التقليدي. وهي الثغرة التي قد يوجدها نموذج "العمل لبعض الوقت" التي نصّ عليها النظام، والتي أعتقد أنّه كان يجب أن يميّزها في النص عن العمل المستقل أو الحر تجنبًا لأيّة اجتهاداتٍ غير مرغوبةٍ في التفسير.
أصحاب العمل قد يستغلون ترتيبات العمل المرنة للمطالبةِ بساعاتِ عملٍ أطول دون التعويض عن العمل الإضافي
وعلى الرغم من نصّ المادة 8 على عدم التمييز بين العاملين عملًا مرنًا والعاملين بشكل غير مرن، إلّا أنّ هذا بالتأكيد لن يحصل على أرض الواقع، فهنالك مجال كبير للتمييز والتحيّز، حيث إنّ فرص العاملين عملًا مرنًا تقلّ تلقائيًا في مجال الترقيات وفرص التطوير المهني مقارنةً بالعاملين في المكاتب بدوام كامل، تطبيقًا لمقولة "بعيد عن العين بعيد عن القلب"، كما أنّ أصحاب العمل، وخصوصًا في المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة، قد يعاملون العمل المرن باعتباره امتيازًا وليس حقًا، ويمنحونه بشكلٍ انتقائي وغير عادل بناءً على تحيّزات شخصية على الرغم من محاولةِ النظام تأطير هذا المجال بشكلٍ واضح.
في النهاية، أعيد التأكيد على أنّني من أنصار العمل المرن، وأجد النظام خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن هنالك الكثير من التفاصيل التي يجب العمل عليها والفجوات التي يجب سدّها لضمان تطبيق منظومات العمل المرن بأفضل صورها بشكلٍ يضمن حقوق العاملين وأصحاب العمل، ويعزّز الإنتاجية.