العودة إلى شقرا: إرث الجنوب الذي لا يندثر

03 ديسمبر 2024
+ الخط -

ركامٌ فوق ركام. إرثٌ ميّت يثقل الهواء. شوارع مغطاة بقرميد المنازل وحجارتها. كتبٌ ممزقة وألعاب أطفال مُلقاة وسط الخراب. صقيعٌ يخترق الأجساد، وسماءٌ غائمة تُلقي بظلّها الثقيل على وجوهٍ دامعة، وعيون أهالٍ منكوبين عادوا إلى بقايا منازلهم بعد نزوحٍ طويل. منذ طفولتي التي عشتها في حرب تموز/ يوليو 2006 بين شقرا وضاحية بيروت الجنوبية، كنت بالكاد أحتفظ بطيفِ مُشاهدٍ؛ غارات تهدر فوق رؤوسنا ونزوح نحو الجبل.

لطالما اعتقدت أنّ وصفهم لدمار بلدة شقرا العامليّة، لربما، يحمل مبالغة، لأنها حبيبتهم، فيعظّمون مأساتها. إلا أنّ اللحظة التي انتظرتها منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 جاءت مع إعلان "وقف إطلاق النار"، كما يسمّونه. تمكنت أخيرًا من التوجّه نحو شقرا دون مكالماتٍ متتالية من أمي أو تهديد شقيقتي بمقاطعتي "لخطورة الوضع". زرت شقرا خمس مرّات خلال الحرب سرًّا، حيث كانت نابضة بالحياة، تحت وطأة المسيّرات والغارات القريبة، تستقبل نازحين من قرى الشريط الحدودي المقابل لفلسطين المحتلة. ومع إعلان الهدنة، التي خرقتها إسرائيل أكثر من 60 مرّة حتى اللحظة، حجزت أقرب تذكرة سفر.

صباح السبت وصلت من غربتي التي لم أستسغها بعد. قرّرت مفاجأة أسرتي وأصدقائي، عسى أن أوقظهم من حصار الحرب الفكري. طوال الفترة السابقة، لم أرَ منهم سوى رسائل متقطعة: "غارة"، "أفيخاي مهدّد"، "مش قادرين ننام"، "طالعين من المنطقة". استقبلوني كأنّ شيئًا لم يكن، كأنّهم عادوا من غفوةٍ قصيرةٍ ليواصلوا حياتهم. واليوم، للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب، لم يعارض أحد قراري بزيارة شقرا، على الرغم من التهديدات اليومية للمتحدّث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي أنذر سكان شقرا وقرى أخرى، مراراً بعد إعلان الهدنة، بعدم التوجّه نحو البلدة "حفاظًا على سلامتهم". 

في كلِّ زاويةٍ، تختبئ آثار الحرب: بيوت مدمرة، ألعاب أطفال مغطاة بالتراب، وصمت يخيم على الطرقات

تحضّرت نفسيًا لتلك الزيارة. انطلقت برفقة صديقي صادق وصديقتي نهلة. عند مدخل صفد البطيخ، ظهرت أولى ملامح الدمار. تقدّمنا قليلًا، وصولاً نحو لافتة "اتحاد بلديات قضاء بنت جبيل: برعشيت – بيت ياحون - شقرا ودوبيه". مع الوصول إلى البلدة، رافقني مارسيل خليفة وفيروز. شقرا، بدت مختزلة في صورة الخراب. الركام يغطي الخط العام، خط "الكزدورة" التي كانت تعجّ بضحكاتنا وصخب الحياة لسكّان البلدة وزائريها. اليوم، لا صوت سوى الجرّافات التي تبعد الركام، وأحاديث ثقيلة يتخلّلها "الحمدلله ع السلامة"، وقليل من محاولة الإحياء والإنعاش.

في كلِّ زاويةٍ، تختبئ آثار الحرب: بيوت مدمرة، ألعاب أطفال مغطاة بالتراب، وصمت يخيم على الطرقات. لم أبكِ. المشهد لا يمكن اختصاره بذلك. بين الركام، وجوه أهلي وأحبّتي كانت هناك، محملة بكوم من الصبر "الواجب" والضروري. شقرا كانت تنتظرني، وأنا كنت أهرب إليها، إلى ذاكرتها وذاكرتي. لكنّني لم أكن أريدها هكذا.

توجهت لتفقد منزلنا؛ لا يزال صامدًا رغم الأضرار. دخلت ثانية، كما فعلت السنة الماضية، حين أخذت شهادة تكريم "البريفيه" التي حصلت عليها من البلدية، لأجمع ذكريات شعرت بأنها قد تتلاشى. اليوم، قطفت أربع حبّات زيتون، وبعضا من الحجارة، وزجاجًا محطمًا بفعل الغارات. لم أتفقّد كلّ شيء، لم أفهم لماذا، سريعاً دخلت وخرجت.

الصورة
حرب لبنان

في ساحة البلدة، كان ثمّة مبنى منهار جزئياً، سقفه يطمر سيارة صغيرة تحت أكوام الحجارة. بدا وكأنّ الزمن توقف هناك. الأقواس الحجرية المتبقية وسط الركام أشارت إلى يوم كان مزدهرًا، وتحوّلت إلى ذكرى. أمّا جامع الساحة، الذي بناه أحد الأجداد، السيّد أبو الحسن موسى في العام 1768، استهدفته إسرائيل، وألحقت به أضراراً غطّت ساحة الجامع الداخلية ولحقها تدمير لبعض القبور الموجودة هناك. 

وسط الركام، لفتتني لعبة دب كبيرة مغطاة بالغبار، تنظر بصمت، كأنّها تختصر المأساة بأكملها، تنتظر صاحبها الصغير. في القسم الآخر، اقتربت أكثر من قلب البلدة، وأنا أبحث عن حي آل الأمين، أو حارة الباطون سابقاً، الحيّ الذي كان يأوينا على مدار 24 ساعة، أنا وأبناء جيلي ومن سبقونا. وجدت لوحة محطمة: حي آل الأمين، ملقاة بالقرب من مجمّع محترق ومدمّر. 

الصورة
حرب لبنان

البلدة، كغيرها من قرى الجنوب، أُبيدت ذكرياتها. اليوم، أقف أمام هذه المأساة، أشعر بثقلها، وأدرك أنني كان يجب أن أعيش تلك اللحظات كاملة من هنا، من شقرا، كي أعبّر عن كلِّ ذلك بشكلٍ أعمق. أجد نفسي عاجزًا عن التعبير، ركيك الكلمات، ولكنّني أريد أن أعبّر وأوثّق تلك اللحظة "الطازة". كأنّها حربٌ عليّ. ألتف حول ذكرياتنا المضطربة من البقاع إلى الضاحية فالعاصمة وصولاً لشقرا. في غربتي، كنت أسمع صوت الغارات، أتتبّع الإنذارات، أعيش حياة مُوازية تشعرني بالقهر المضاعَف. انتظرت وأبناء بلدتي شقرا خريطة، بحثت فيها عن منزلنا الصامد، كي أطمئن على قرميده، وورق العريش، والزيتون، والحقل الذي كان أبي يوبّخني على عدم الاهتمام به.  

الجنوب يرفض النسيان، تبقى ذاكرته حيّة نابضة، ويبقى إرثه الذي لا يندثر

أنا اليوم في الثانية والعشرين من عمري، لم أكن مستعداً لكلّ هذا، لم أكن مستعداً لكلّ تلك الضربات. أنا الطفل الذي لم أستمتع في تطوير فكرة حلم كنت أستعدّ لتنفيذه في سنواتي اللاحقة في الجنوب. أنا الطفل الذي شهد حرب تموز 2006 في شبرا، وترعرع في الضاحية الجنوبية لبيروت، لغاية العام 2015، تخيّلت أنهما قريتان سُلختا عني: الأولى شقرا، والثانية الضاحية التي عشت فيها سلسلة التفجيرات الإرهابية.

بتُّ ضعيفاً أمام تلك المأساة، أستذكر وجوهاً في شقرا، وجوهاً أُضيفت إلى عدّاد الشهداء الذين فاقوا الستين، ونحو 15 مفقوداً، لكلّ منهم اسم وحلم. وجوه مرّت يوماً وابتسمت، ثم غابت وحوصرت تحت ركام الحرب. أشعر أنه كان عليّ أن أكمل النصف الآخر من الحرب ليس في الاغتراب. ألّا أكتفي في قطف الفول أمام مشهد الغارات في شقرا في النصف الأول من الحرب، أن أعيش كل هذا وأهتزّ، وأن أعبّر عن تلك الكلمات هناك، في شوارع القرية، أو في الضاحية.

في جبل عامل، البيوت كلّها تخزّن رائحة الكتب، والخشب، والحجر، والحطب، والشاي، والبقعات. مثلها كمثل كلّ البيوت، فيها نوستالجيا لا نريد لها أن تموت، كما هو الحال في شقرا.

في الجنوب، الحرب لم تنتهِ. الجنوب لا يزال يعيش تحت وطأة الاحتلال. الاحتلال لا يزال يجرف منازل، ويحرق الأراضي وشجر الزيتون، ويقتل أهالي بالكاد عادوا من كابوسهم. يهدّد ما تبقّى من بشر وحجر وقطط وكلاب تبحث عن ملاذ. هو انتقام من تلك البلدات، من إرثها العريق، من زوايا خبّأت الكثير من الروح والذاكرة. لكن الجنوب يرفض النسيان، تبقى ذاكرته حيّة نابضة، ويبقى إرثه الذي لا يندثر. 

يوسف الأمين صحافي لبناني ومدقّق معلومات (العربي الجديد)
يوسف الأمين
يوسف الأمين صحافي لبناني ومدقّق معلومات