الغرب و"تفكيك الاستعمار"... مقولة نظرية فقط؟
في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول، أي بعد مرور أربعة أيام على بدء عملية "طوفان الأقصى"، نشر باحث وطالب دكتوراه بريطاني عبر صفحة على منصة "تويتر"، معبّرًا عن تضامنه الشديد مع عائلات القتلى الإسرائيليين، إذ قال إنّهم قتلوا بـ"وحشية" بسلاح مقاتلين حركة حماس. لم يكن هذا مفاجئًا في البداية بالنسبة لي، فكلّنا تابع الإعلام الغربي ورأيه شبه الموّحد المتضامن مع إسرائيل، لكن المفارقة الكبرى كانت عندما تذكرت أنّني أضفت ذلك الباحث أصلاً بسبب مراجعة نظرية ممتازة، كان قد كتبها عن أعمال فرانز فانون، يؤكد فيها، كما يؤكد فانون نفسه، أنّ الاستعمار لا يمكن أن ينتهي إلا بالعنف.
لم تكن هذه المفارقة بعيدة عن الواقع الذي نعيشه في الأيام الأخيرة، كما لم تكن بالتأكيد مقتصرة على صديقنا الذي يدّعي الراديكالية والتقدّمية، بل كانت رأيًا راج بشكل كبير عند أكاديميين ومنظّرين غربيين، طالما ادّعوا أنّهم يقفون مع رغبة الشعوب في الخلاص من الاستعمار، كان أبرزهم الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر.
مع بداية الحرب على غزة، دانت بتلر ما وصفته بـ"الجرائم البشعة" التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في ما يسمّى بمستوطنات "غلاف غزة"، ودون أيّ تردّد أو شعور بالتناقض مع ما كانت تطرحه في أوقات الهدوء، أكدت أنّه "لا يمكن تبرير هجمات حركة حماس من خلال الرجوع إلى تاريخها"، ومع أنّ بتلر تعترف بالعنف الإسرائيلي والمجازر الإسرائيلية وتاريخ الاستبداد تجاه الفلسطينيين، إلا أنّها طالبت بشكل واضح في أحيان، وضمني في أحيان أخرى، بإدانة ما فعلته المقاومة الفلسطينية، قائلةً إنّ ذلك يساهم في تسليط الضوء على حلول أخرى لوقف العنف في المنطقة، بلغة كانت أقرب إلى لغة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تتورّط دولته في دعم إسرائيل لقصف منازل المدنيين في غزة.
حاولت الفيلسوفة الأميركية أن تدّعي أنّ موقفها يجيء بسبب فهم عميق لسياق الصراع، إلا أنّ ما قدمته يطالب بشكل واضح بإدانة العنف في هذا الوقت، مؤكدةً أنّ فهم تاريخ القمع الذي يعيشه الفلسطينيون، الذي لم تنكره للأمانة، يجب أن يكون مدخلاً للتفكير في حلول بديلة لإنهاء الاستعمار.
ظهرت حملات تطالب بفصل كلّ من "يبرّر" ما قامت به المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة
بالتأكيد، وكما هو متوّقع، لم يقتصر الأمر على إدانة هجوم حماس، لكن الحملة طاولت أيضًا كلّ من يعارض هذه الإدانة. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، خرج العديد من الأكاديميين الفلسطينيين في الجامعات الغربية، معبّرين عن رأيهم بأنّ ما حدث يوم السبت الموافق 7 أكتوبر/ تشرين الأول، هو ردّ فعل طبيعي وشرعي على سنوات من الاستعمار والانتهاكات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، ولقي هؤلاء الأكاديميون حملة واسعة تطالب بفصلهم من وظائفهم، كان على رأس المستهدفين الباحث الفلسطيني المعروف، جوزيف مسعد، بعد أن نشر مقالاً قال فيه، إنّ "ذلك جاء ردًا على المذابح الإسرائيلية المستمرة في بلدة حوارة والقدس بالضفة الغربية"، وكذلك اقتحامات المستوطنين المستمرة للمسجد الأقصى.
لاحقًا، ومع تطوّر الأحداث وتصاعد المجازر الإسرائيلية على قطاع غزة، نشر باحثون فلسطينيون وغير فلسطينيين موقفهم تجاه هذه الهجمات الإسرائيلية، وكما هو متوّقع، ظهرت حملات أخرى تطالب بفصل كلّ من "يبرّر" ما قامت به المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
تكشف هذه الموجة، التي ترافقت مع حملة إعلامية شرسة، تبدو، وكأنّ أجهزة الدول الغربية تديرها، أنّ تلك الحوارات الأكاديمية والمجادلات النظرية، التي كانت تضجّ تاريخيًا بمقولات راديكالية، بدأت تنحصر وتتراجع، بالتأكيد ليس لأنّ منظريها شكّلوا فهماً جديداً للصراع وشكله ومساراته، لكن ببساطة لأنّ تلك المقولات التي كانت رنانة سابقًا، بدأت تفقد جاذبيتها بالنسبة لأصحابها، تمامًا في اللحظة التي خرجت فيها من الأوراق البحثية والمؤتمرات العلمية إلى أرض الواقع.
في محاولة لفهم تلك الحملات التحريضية الغربية على المقاومة الفلسطينية، قال بعض المثقفين الفلسطينيين، إنّ أسوأ ما في النقاش العالمي حول هذه الحرب هو أنّ الفلسطيني يحتاج في كلّ مرّة إلى تذكير الغرب بالعودة إلى المربّع الأوّل من الحوار، وهو محاولة فهم إسرائيل باعتبارها كيانًا استعماريًا غير شرعي.
لكن ببساطة، وربما بكثير من الأسف والحزن على هذا الاكتشاف، قد تكون الهجمات الغربية الأخيرة على المقاومة الفلسطينية، أظهرت أنّ منظري المربّع الأول أنفسهم قد يحتاجون في كلّ مرّة إلى تذكير دائم بالعودة إلى كتاباتهم السابقة أيضًا.