02 سبتمبر 2024
الفن وفرقة حسب الله
حينما كنا نرتدي طقم العيد لأول مرة، بعد طول بهدلة بالثياب العتيقة البالية، كانت عمتي "عيوش" تطلب منا الاقتراب منها حتى نصبح في مرمى بصرها الشحيح، ثم تعلق قائلة: الإنسان نصفُه خلقة، ونصفُه خرقة!
ولعل هذا التوصيف البسيط لجمالية الإنسان الخارجية، وعلاقة الثياب بها، سلباً أو إيجاباً، ينطبق بمقاييس ونسب أكثر دقة على مسألة الإبداع؛ فالموهبة، إذا لم تُغَذّ بالجهد والسهر والصبر والاجتهاد تكون كضوء جناح الحباحب الذي يشتعل وينطفئ في اللحظة ذاتها، فبئس الضوء هو.
ازدادت قناعتي بصحة هذا الاستنتاج وأنا أتابع، قبل سنين طويلة، مقابلة تلفزيونية مع الشاعر الغنائي الراحل عبد الرحمن الأبنودي، وقد تحدث عن مغامرته الكبرى في جمع الأشعار والأغاني لتغريبة بني هلال. وكيف أنه أهدر من عمره سنوات مسافراً إلى مضارب البدو في مصر والأردن وسيناء والسودان وتونس وليبيا، مصطحباً معه آلة التسجيل الكبيرة التي أهداها إليه عبد الحليم حافظ، ومجموعة من الأشرطة، بقصد أن يأخذ السيرة والأشعار من مصادرها الأصلية، مغناة على الربابة.
ولعل هذا التوصيف البسيط لجمالية الإنسان الخارجية، وعلاقة الثياب بها، سلباً أو إيجاباً، ينطبق بمقاييس ونسب أكثر دقة على مسألة الإبداع؛ فالموهبة، إذا لم تُغَذّ بالجهد والسهر والصبر والاجتهاد تكون كضوء جناح الحباحب الذي يشتعل وينطفئ في اللحظة ذاتها، فبئس الضوء هو.
ازدادت قناعتي بصحة هذا الاستنتاج وأنا أتابع، قبل سنين طويلة، مقابلة تلفزيونية مع الشاعر الغنائي الراحل عبد الرحمن الأبنودي، وقد تحدث عن مغامرته الكبرى في جمع الأشعار والأغاني لتغريبة بني هلال. وكيف أنه أهدر من عمره سنوات مسافراً إلى مضارب البدو في مصر والأردن وسيناء والسودان وتونس وليبيا، مصطحباً معه آلة التسجيل الكبيرة التي أهداها إليه عبد الحليم حافظ، ومجموعة من الأشرطة، بقصد أن يأخذ السيرة والأشعار من مصادرها الأصلية، مغناة على الربابة.
ولم يربح الأبنودي من تلك الرحلات المضنية إنجاز العمل الملحمي الذي قد تنوء بحمله مؤسسات الدولة وحسب، بل إنه تعرف على شعوب تلك المناطق العربية، عاداتها وتقاليدها وطرائقها في صياغة الكلمات والألحان، فارتقى بملكة التأليف الغنائي لديه، حتى إنه صار قادراً على تحويل قول بسيط لوالدته مثلاً (أنا كل ما أقول التوبة ترميني المقادير) إلى أغنية عاطفية فريدة.
وإذا أردنا الاستزادة من الأمثلة حول قضية العمل في مضمار الإبداع، نستطيع أن نذكر غابرييل غارسيا ماركيز، الذي أمضى خمس عشرة سنة في كتابة روايته "مئة عام من العزلة". ونذكر جهود المحققين الذين سهلوا علينا قراءة الكتب العويصة، كحسن عثمان الذي ترجم كوميديا دانتي، وعائشة عبد الرحمن التي حققت رسالة الغفران، ومحمد حسن زناتي الذي شرح كتاب "الفصول والغايات" للمعري، وعبد الأمير الأعسم الذي جمع أخبار ابن الريوندي في جزأين... إلخ.
إلا أن ما يلفت الانتباه في هذا المضمار، هو المثال الذي ورد في سيرة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي أقام برفقة الشاعر أحمد فتحي ثمانية أشهر حول معبد الكرنك سنة 1941، حتى تم لهما إنجاز العمل العبقري "الكرنك"؛ وفيه، كما يقول النقاد، إعجاز فني مذهل يتجلى في الكوبليه الموسيقي الذي يسبق قوله:
أين يا أطــلال جند الغالب
أين آمون وصوت الراهب؟
وقد لحنه الأستاذ محمد على مقام "الهزام" في موقع "الراست".
أضف إلى ذلك أن السمة الغالبة التي تطبع أعمال الملحنين الكبار تتلخص في أنهم يقدمون في الأغنية الواحدة كوبليهات لحنية متعددة متناغمة في الإطار العام، وتبدو متباينة في التفاصيل الصغيرة. على عكس ملحني اليوم، الذين يسلقون للأغنية لحناً واحداً. ثم يأتي المؤلف الغنائي، الذي يفترض به أن يكون وريث الأبنودي ورامي وسيد حجاب وأحمد فتحي وعلي محمود طه، يأتي ليصف كلاماً غير ذي قيمـة، حتى ليصح ما قاله أحد الظرفاء من أن كلمات بعض الأغنيات يمكن مبادلتها بكلمات أغان أخرى، غير مهتمين أساساً بالإحساس الذي تعطيه الكلمة حينما ترد في مكانها الصحيح وسط اللحن.
لقد بلغ السيل الزبى، وأغرق التراجع والتقهقر في الفن كل شيء، حتى ليشك المرء بوجود صلة قربى من أي نوع كان بين الجدود العظماء، والأحفاد "الهايفين". ولتبدو الصورة هزلية "كاريكاتورية" كما في القصة التي تروى عن السيد "حسب الله المصري"، الذي كانت لديه فرقة صغيرة مختصة بإحياء الحفلات.
وكان سيد الساحة من دون منازع، إلى أن جاء وقت شرعت تظهر فيه فرق ضخمة مؤلفة من عدد كبير من العازفين والآلات، فأحس حسب الله بالعطب، وأعمل فكره لإيجاد حل لهذه الزنقة، فكان أن أدخل عناصر جديدة إلى فرقته، ليس لهم أي عمل في الفرقة سوى التواجد بلباس العازفين المميزة، وأعطى لكل واحد منهم آلة صماء، طالباً منهم التظاهر بالعزف كزملائهم، وما ذلك إلا لإيهام الناس بأن الفرقة ضخمة.
والطريف في الأمر أن حسب الله أصبح يخطئ بينهم وبين العازفين الحقيقيين، فيضطر لأن يسأل الواحد منهم قائلاً:
- يا افندم، حضرتك من العازفين ولا من اللابسين؟
فيا سبحان الله، كم يعبّر هذا السؤال عن مختلف نواحي حياتنا في هذه الأيام، فنحن حقيقة ما عدنا نميّز بين العازف واللابس في أي مجال، ويا رب سترك وعفوك!