الكتاب بين العيد وسكرات الموت
اختارت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة أو ما يُعرف اختصاراً بيونسكو، الثالث والعشرين من شهر إبريل من كل سنة يوماً عالميّاً للكتاب وحقوق المؤلف إيماناً واعترافاً بأهمية الكتاب وانتصاراً لحقوق الكاتب والمؤلف. إذ يُصادف التاريخ المختار ذكرى وفاة عدد من الكُتاب المرموقين أصحاب أعمال خالدة مثل وليم شكسبير وميغيل دي ثيربانتس وغارثيلاسو دي لافيغا.
كثيراً ما استوقفتني تلك المفارقة التي تجعل الموت إيذاناً يكتب الحياة حتى أني قلتُ مرة عند انتهاء كتابة آخر فصول لي: "لم يبق أمام عنقود النجاح وميلادي كاتباً إلا الموتُ اختناقا بحبة عنب مشبوهة" في إشارة إلى ما قاله كاتبنا علي الدوعاجي في رواية سهرت منه الليالي "عاش يتمنى في عنبة.. مات علقوا لهُ عنقود"! ساخراً من ذلك التهميش الذي يعيشه الكاتب وربما فقط ما يحول بينه وبين خروج كلماته من العتمة هو الموت.
نعم قد يموت المرء لكن الأثر لا يموت، فكيف إن كان الأثر أدباً يعانق الحياة يطرق العقول يخفق فرحاً وألماً وحباً ويكشف الأسرار ويخلد الجمال ويرسم الأقدار؟!
ولا عجب أن السماء لما راودت أرضنا فاتحتها بـ "اقرأ" ولا حاجة بتذكيركم، تعلمون ذلك جميعا لكن العجب في أُمّةٍ أراد الله لها فتح العالم ألا تفتح كتابا!
لا يغرنّكم من يتعذّر بعموم بلوى التلفزيون الذي تراجع هو الآخر أمام غزو الهواتف الذكية ومواقع التواصل المختلفة، فالغرب ما زال رغم كل الزخم الذي يعيشه يقدّر الكتاب ويحتفي به وتحظى صناعة الكتب بالرعاية والاهتمام تأليفاً وترويجاً وتسويقاً، حتى أنك تلحظهم قرّاءً ينهلون من الكتب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا في البيوت والمكتبات والحدائق والمتنزهات والشواطئ والمحطات والمواصلات.
أما في عالمنا العربي المتقهقر في كل شيء، فصناعة الكتب من ركود إلى ركود زاده التضخم المشط وارتفاع الأسعار الجنوني أزمة فوق أزمة تركت الكاتب رديفاً يحتل المغني؛ ولا أقول المطرب الفنان؛ ولاعب كرة القدم قبله المشهدَ والشهرةَ ويحتكر السوق والحظوة.
ظلمات ورداءة بعضها فوق بعض وتلعن إحداهما الأخرى في عالم يحرّكه الترند والشهوة وتقود كل الطرق فيه إلى بطن قومي.. وإلا إلى ما دونه!
نعم قد يموت المرء لكن الأثر لا يموت، فكيف إن كان الأثر أدباً يعانق الحياة يطرق العقول يخفق فرحاً وألماً وحباً ويكشف الأسرار
ولولا ذلك الفتات الزهيد الذي تلقيه وزارات الثقافة العمومية دعماً لا يسمن ولا يغني من جوع ولولا تلك الجوائز المعدودة، والتي لم تسلم من الهمز واللمز بأنها هي الأخرى مشروطة ومحسوبة لأسماء محدودة رضيت عنهم ورضوا عنها.
ونزر الأقلام المشهورة والمواهب المفطورة التي نجحت في شق طريقها رغم كل العراقيل، وزمرة من القراء الأقلاء المبثوثين. لصحّ القول بأنه لم يبق من الكتاب في بلاد الضاد إلا اسمه ورسمه، فقد اندثر ومات على الأقل سريريا إلا من تلك الخطوط والمعدات التي تنعشه وتُبقيه على الحياة واهنا ومشلولا بأمل شبه معدوم!
ويتزامن هذا اليوم في تونس مع معرض الكتاب الدولي الذي تجري فعالياته هذا العام بقرارٍ رئاسي أعاده من الإلغاء والإبطال ولم يحفظه من غيابٍ ظاهر لعديد الدور التي أربكها التردد والتي تتناقص عاما بعد عام.
معرض اعتادت الدور المحلية أن يشكل لها فرصة لجذب مزيد من القراء خلاف الحرفاء التقليديين من هواة القراءة والطلبة والباحثين والأكاديميين. لا سيما من الشباب الذي يدفعه الفضول ليزور المعرض ويلتقي ببعض الكُتاب أو يسبر العناوين..
ولعل السؤال الأبرز والتحدي الأكبر الذي يواجهنا كُتابا مسؤولين: أي دور لنا بعد كل ما سُقناه من توصيف وتبرير نبحث من خلاله عن اتهام الجميع قراء وساسة وناشرين.. ونبرّئ ساحتنا كأنّنا أنبياء مضطهدون أو ضحايا مثقلون نعيب كل شيء سوانا ونحن الداء والدواء لم ترتق حروفنا ولا مواقفنا إلى المأمول.. اجترار يخلو من الإبداع والإمتاع ولا يخلو من المهادنة والتكرار.
فبأنصاف مواقف أو بدعاء هزيل أو أصمت من عود بلا وتر.. هكذا هم مثقفونا في وجه المحن الكاشفات يؤثرون حياة لا صدام فيها ولا تعب ولا مسغبة ولا نصب.. فلنكن صرحاء.. لا شاعرنا عاشق متيم ولا أديبنا فارس ولا داعيتنا يعرف الله!
هم مجرد كتاب ومواهب تدغدغنا بنصوص رخوة من حرير على أي جسد ما أسبلتها تجدها صالحة!