الكدحُ في أرذلِ العمر
في كلِّ صباحٍ وأنا سائرٌ في الطريقِ إلى عملي، ألتقي به في الشارع العام. كهل في أواخر الخمسينات أو بدايةِ الستينات من عمره، رثّ الملابس، هزيل البنية، مقوّس الظهر، بيدين معروقتين يدفعُ عربةً، عليها "خنشة شمرتل" كبيرة، وتكدّست داخلها ربطات النعناع الأخضر.
كلّما رأيتُ هذا الرجل تذكرتُ والدي رحمة الله عليه. عملَ والدي بحارًا إلى أنْ أُحيلَ على التقاعد، لكن هزالة التعويض الذي كان يتقاضاه، اضطره للاستمرارِ في ممارسةِ بعض الأعمال البسيطة، وآخرها بائعًا للحساء في مرسى المدينة، مع رفضِ والدتي (رحمة الله عليها) المستميت لفكرةِ تركنا مقاعد الدراسة. ولهذا كانت مساعدتنا له، تتمثّل بأن أساعده، أنا أو أحد إخوتي، كلّ مساء، في حملِ طنجرةِ حساء الشعير بالحليب، ووضعها داخل عربته اليدوية، ثم يغادر، ولا يعود إلّا مع إشراقةِ يومٍ جديد. كنت أبقى متسمّرا في مكاني، يملؤني الكثير من الحسرةِ، واقفًا أمام الباب، أراقبه حتى تُخفيه ناصية الزقاق، حيث كان يتواجدُ منزلنا.
أتذكر هاتين الصورتين، كلّما تناهى إلى مسامعي بعضٌ ممّا يرشح عن المفاوضاتِ التي تجريها الحكومة المغربية مع النقاباتِ من أجلِ إصلاحِ صناديق التقاعد التي يُقال إنّها أصبحتْ على حافةِ الإفلاس (دون أن يُقال لنا لماذا)، إذا لم يتم تدارك الأمر خلال السنوات القليلة المقبلة. الحكومة من جانبها، تتعلّل بأنّ المشكل بنيوي مرتبط بتقلّصِ موارد الصناديق وارتفاع كلفة التزاماتها، دون أن تنكر أنّ الأمر كذلك مرتبط باختلالاتٍ شابتْ تدبير هذه الصناديق، لكنها لا ترقى إلى شبهاتِ فسادٍ ممنهج. النقابات تتحاور مع الحكومة خلف الأبواب الموصدة باعتبارها شريكًا في تدبيرِ هذه الصناديق، وبالتالي هي مسؤولة عن الحالة التي وصلت إليها، ومع ذلك هي في اللقاءات الجماهيرية ترفع الشعارات المدغدِغة لمشاعرِ مناضليها ومجموع الشغيلة. الأصواتُ المدنية والحقوقية من جانبها، تعتبرُ هذا الملف من الملفات التي تُبيّن استشراء الفساد في دواليب الدولة وعدم ربط المحاسبة بالمسؤولية، وتفضح تواطؤ الدولة والنقابات.
العمل في المغرب، مهما كانت طبيعته، يبقى عملًا متعبًا بالنظر إلى الظروف العامة التي نشتغل في ظلّها
وفي غيابِ تقارير (أُنجزت عدّة تقارير من طرفِ مؤسّسات دستورية) من جهاتِ افتحاصِ مستقلة حسب علمي، والافتقار إلى معاييرٍ عاليةٍ من الشفافية في تدبير الشأن العام، فإنّ الملف يبقى من الملفات التي تدخل في إطارِ الصراعات التي تخوضها الأطراف السياسية التي تتناوبُ على تدبيرِ الشأنِ العام الوطني، أو التي توجد خارج اللعبة السياسية بمجملها، دون أن نعرف على وجهِ الدقة كيف وصلت هذه الصناديق إلى حافةِ الإفلاس ومن أوصلها لهذه الحالة، وما هي أقلّ السيناريوهات ضررًا بالنسبة للموظفين ومالية الدولة.
في الحقيقة، كلّ هذا لا يهمني، أو لنقل إنّني لا أحبُّ الدخول في تفاصيله التقنيّة المُملّة، ما يهمني أنا، ويهم الأكثرية من الموظفين والعمّال على ما أظن، أن لا أجد نفسي مضطّرًا في آخر أيامي لمواصلةِ العمل، أو إلى أن تخونني صحتي، وأن لا أستفيد من فرصةٍ للراحة والاستمتاع بسنواتِ تقاعدٍ مريح بصحةٍ جيدة، بعد سنواتٍ طويلة في الكدح، خاصة مع وجود اقتراح برفع سنِ التقاعد سنتين إضافيتين، بعد أن تمّ رفعه في الإصلاحِ الأخير ثلاث سنوات، لتصبحَ سن الإحالة على التقاعد 65 سنة. وبصراحةٍ هذا ما يُؤرقني، أن أعيش الصورتين أعلاه.
والعمل في المغرب، مهما كانت طبيعته، يبقى عملًا متعبًا بالنظر إلى الظروفِ العامة التي نشتغل في ظلّها، والضغوطاتِ التي نتعرّض لها، خاصة النفسية منها، والتي تؤثّر سلبًا على جودةِ الحياة، وبالتالي على استمرارنا بصحةٍ جيّدةٍ إلى سنٍ متقدّمةٍ من العمر.