المجتمع الإسرائيلي وعقيدة الإبادة

06 نوفمبر 2024
+ الخط -

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، جادل علماء اجتماع ومؤرخون بدوافع الجنود المنخرطين في الحرب، إذ مال بعضهم إلى أنَّ الجنود الألمان الذين قاتلوا على الخطوط الأمامية، كانوا يركزون على ظروفهم المباشرة وينشغلون ببقائهم، ورفاقهم، على قيد الحياة؛ في حين رأى بعضهم الآخر، أنَّ الجنود كانوا مقتنعين بأنّهم هناك للدفاع عن قضيةٍ أسمى وأكبر، تتجاوز تضامن مجموعةٍ صغيرةٍ من المقاتلين بهدف البقاء على قيد الحياة.

في الحقيقة كان المجتمع الألماني مُهيئًا أصلًا للحرب قبل بدئها، إذ إنَّ فكرةً معينة سادت وكانت المحرّك الأساسي لهم، وهي أنَّ ملايين السلافيين المدعومين باليهود البلاشفة المخادعين، يهدّدون بتدمير ألمانيا وبقية العالم المتحضّر، ولهذا كان للرايخ الألماني حقّ اتخاذ القرار بتدمير واستعباد أعداء ألمانيا، والسيطرة على أراضيهم.

إنَّ تحضير المجتمعات أيديولوجيًّا هو ما يقود الجيوش إلى الحرب فيما بعد، وهذا ما حصل في ألمانيا بعد أن تشبَّع المجتمع الألماني بأفكار معينة عن "الأعداء"، وهي الأفكار التي حرّكت الجنود الألمان وغذّت مخيالهم عقائديًّا في ساحات المعارك، فهم بالنهاية أبناء هذا المجتمع ويحملون أفكاره نفسها. 

إنَّ تحضير المجتمعات أيديولوجيًّا هو ما يقود الجيوش إلى الحرب فيما بعد

نضيف إلى ذلك مقاومة جنود الجيش الأحمر الشرسة التي عزّزت هذه النظرة، وكان كلّما زاد الدمار وارتفع عدد الضحايا، زاد خوف الجنود الألمان من حجم الانتقام المتوقع إذا انتصر أعداؤهم؛ نتيجة لذلك راح ضحية هذه الحرب 30 مليون شخصٍ، وهُزم الألمان.

عقيدة الجيش الإسرائيلي

برغم التمايز بين المجتمع المدني والعسكر، لطبيعة كلّ منهما وسياقه، فإنّ بعض الأنظمة سعت جاهدةً لعسكرة مجتمعاتها نفسيًّا وذهنيًّا، فأنتجت آلات قتلٍ لا تأبه كيف ولماذا ولمَ ومن تقتل. وفي سبيل ذلك، سعت هذه الأنظمة لعسكرة خصومها كلّهم، مدنيين ومسلحين، ولو بأذهان أبنائها فقط، لتبرّر فعلتها الأولى، وخير مثال على ذلك النظام الإسرائيلي.

في مقاربةٍ بسيطة، وبرغم الفارق الكبير في موازين القوى بين ألمانيا وأعدائها الأقوياء، وإسرائيل وأعدائها المحاصرين المحاربين من العالم أجمع، نرى الدوافع ذاتها لدى الجنود الإسرائيليين، إذ إنّه من المعقّد جدًّا على العقل البشري، فهم دوافع الجنود عندما يوقّعون على صواريخهم، ويكتبون عليها: "هذه هديةٌ لأطفال غزة". ألم يفكروا بأطفالهم؟ أم أنّهم جعلوهم يشاركونهم هذا الفعل المشين؟

إنّ عقيدة الجيش الإسرائيلي مستمدةٌ من المجتمع الإسرائيلي، حيث يخدم معظم رجال ونساء هذا المجتمع إلزاميًّا في الجيش، ما يجعل هذا الجيش نتاجًا خالصًا للمجتمع، الذي تقوم أيديولوجيته اليوم على فكرتين أساسيتين:

الأولى، أنَّ إسرائيل محاطةٌ بالأعداء الذين ينتظرون فرصةً مناسبة للانقضاض على "دولتهم"، وإبادة من فيها، ليس فقط في غزّة، وإنّما في كلِّ دول المنطقة.

سعت بعض الأنظمة جاهدةً لعسكرة مجتمعاتها، نفسيًّا وذهنيًّا، فأنتجت آلات قتلٍ لا تأبه كيف ولماذا ولمَ ومن تقتل

والثانية، أنّ الله وعدهم في كتابهم المقدّس بهذه الأرض، وهم أصحاب الحق بقتل وتهجير كلّ من فيها لاستعادة "حقهم المسلوب"، وتخليصها من سكانها "البرابرة الأشرار"، إمّا بقتلهم أو تهجيرهم.

أي إنَّ القضية بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي قضيةٌ مصيريةٌ عقائدية، ترتبط بموتهم أو حياتهم، وتحقيقهم نبوءاتهم الدينية، وكلَّما أمعن جنودهم بالقتل، زاد خوفهم من انتقام الفلسطينيين والعرب والمسلمين، لتزداد بالتالي جرعة إجرامهم.

تحفيز وتبرير جريمة التطهير العرقي في المجتمع الإسرائيلي

يسود اليوم في المجتمع الإسرائيلي نوعان من المشاعر الطاغية، الأوّل مزيجٌ من الغضب والخوف، بعد ما حدث يوم السابع من أكتوبر، إذ إنَّ الإسرائيليين يشعرون بأنّهم معرضون "للقتل أو الخطف" في أيّة لحظة، وهو ما يجعل الحرب بالنسبة لهم غاية في حد ذاتها.

الشعور المهيمن الثاني هو غياب التعاطف التام داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين الموجودين في غزّة، حتى وإن كانوا أطفالًا رضّعًا، وهذا ما يسمّى اصطلاحًا بـ"الرغبة بالجهل"، وهو ما يعني أنّ معظم الإسرائيليين لا يرغبون بأن يعرفوا ما يحدث في غزّة أصلًا.

ينعكس هذا في الإعلام الإسرائيلي وتغطيته للحرب، إذ إنَّ أخبار المدنيين الفلسطينيين في غزّة، معدومة في الإعلام العبري، وأيّ حديثٍ عن الفلسطينيين وما يتعرّضون له، يقتصر على بضع مقالات رأيٍ في النسخ الأجنبية من الإعلام الإسرائيلي.

معظم الإسرائيليين لا يرغبون بأن يعرفوا ما يحدث في غزّة أصلًا

يقول الصحافي المختص في الشؤون الإسرائيلية خالد خليل: "إنَّ كل الإسرائيليين أجمعوا رأيهم على إبادة الفلسطينيين في غزّة، وحتى الإعلام الإسرائيلي الذي يوصف غربيًّا بـ "المهني"، ليس إلّا وسيلةً بيد الجيش الإسرائيلي، تهدف لترويج الرواية الرسمية للحكومة الإسرائيلية".

تبرير الجريمة

خلال الحرب العالمية الثانية عدّ الجنود النازيون أعداءهم البلاشفة "بشرًا دون البشر"، وكان هذا مبرّرًا كافيًا لقتلهم والسيطرة على أرضهم. واليوم تتكرّر التجربة البشرية نفسها داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ وبعد يومين من هجوم حماس، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت: "إننا نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس"، وبعد ذلك بقليل، أضاف أنَّ إسرائيل يجب أن "تدمر غزة، حيًا تلو الآخر".

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اقتبس من الكتاب المقدس: "اذكر ما فعلته يا عماليق"، في إشارة إلى المقاطع التي تحث بني إسرائيل على إبادة جميع سكان عماليق، "رجالًا ونساءً وأطفالًا ورضعًا". 

يؤيّد أغلب الإسرائيليين اليوم حكومتهم وأهدافها بقتل كلّ من يعيشون في غزّة، تحت ذريعة أنّه الحل الوحيد للعيش بسلام، وهو ما يعطي المبرّر الأخلاقي للإسرائيليين بتدمير مجتمعات كاملة، دون الشعور بالذنب، ما يقود إلى حلقة من العنف الذي لا نهاية له.

في هذه البيئة المظلمة والمشحونة، يتبنى كلّ الإسرائيليين مقولة: "إذا سقط السلاح من أيدينا هلكنا"، لأنّ المستعمرين يعرفون بشكلٍ راسخ بأنَّهم لن يتمكنوا من قلع شجرة دون خوذاتهم الفولاذية، ولن يكون ثمّة مستقبل لأطفالهم دون بناء الملاجئ ونصب الحواجز العسكرية وتشييد الجُدر العازلة.

FD7EEC62-BFF9-4AE2-A790-04834AFF6FBB
FD7EEC62-BFF9-4AE2-A790-04834AFF6FBB
محمد صفو
صحفي سوري مقيم في فرنسا، عمل كمقدم إذاعي ومحرّر في عدّة وسائل إعلامية سورية وعربية.
محمد صفو