المجنون فريد ابن أبو خلّو (4)
استأنفتُ، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، روايةَ القصص التي أعرفُها عن الفتى "فريد ابن أبو خلو" الذي سجنه والده طيلة النهار، في غرفة تطل على الزقاق، ليكف أذاه عن أهله والناس..
وكان لا بد لي من تلخيص ما جرى من قبل، فقلت إن سجالاً فكاهياً دار بين فريد والعم أبو حسني ضراب الطوب، إذ قال فريد لأبو حسني: بدي أليحك كفين بس هلق مو فاضي!
وفي الليلة ذاتها، جرى فصل ظريف في مضافة "أحمد آغا الدمخ"، فقد اجتمع محبو المقالب والضحك (المسخرجية) على أكلة كنافة أم النارين، وكان العم أبو خلو مدعواً، ومازحه الأصدقاء بأن طلبوا منه أن يقلل من الأعمال التي يعهد بها لفريد، حتى إذا أراد أن يضرب واحداً من رجال الحارة كفين مثل فراق الوالدين يكون عنده وقت كافٍ لذلك.
أبو المراديس: على إثر هاي الحادثة انتشر خبر سجن فريد في الحارة، وفي البلد، وكان في شخص ملقب "أبو برداغة"، هادا بتجمعه مع فريد صداقة قوية. "أبو برداغة" عمره تلاتين سنة، وفريد عمره أربعطعش، ومع هيك، لما كانوا يمشوا سوا في الحارة يظهر فريد أطول من أبو برداغة بشبر.. أبو برداغة ما بإيده مهنة يعيش منها، منشان هيك بينزل يومياً على ساحة الخضرة، وبيشتغل بالعتالة، لحتى يطالع مصروف اليوم، وبعدما يخلص شغل بيروح عالكَرم اللي ع طريق قرية "عين شيب"، هناك في عنده شقة زغيرة بيربي فيها كلاب جعارية. المهم، سمع بقصة فريد فإجا لعنده.. لقاه لازق وجهه بشباك الحديد وعم يبهدل ولد كان مارق في الزقاق.
انبسط فريد لما شاف أبو برداغة وقال للولد: روح هلق لعند أمك، أنا انشغلت.
وقال لأبو برداغة: أهلين أبو برداغة. جيت بوقتك، من كام يوم وأنا رجعان من المدرسة شفت كلب جعاري مبركَعْ، تذكرتك.
ضحك أبو برداغة وقال له: وأنا شفت جحش داناته طوال، تذكرتك.
قالت حنان: يا الله، شخصية فريد شقد حلوة. بيضحّك.
توقف الجميع عن تناول الطعام، وتجمدت اللقمات في حلوقهم، وبالأخص نورية شقيقة فريد، لأن أم أمجد أجت من كم يوم، وحكت مع أم خلو، وطلبتها لأمجد
أبو المراديس: المهم، أبو برداغة رسم على وجهه ملامح الجد، وطلب من فريد يقرب إدنه من حديد النافذة، لحتى يهمس له بجوز كلام. لكن فريد، متلما بتعرفوا، إنسان واضح وصريح، قال لأبو برداغة: خليك رجال ولاك أبو برداغة وإحكي بعزم. لأشو الوتوتة؟
أبو برداغة: الحكي ما بينحكى. قرب لعندي.
ولما قرب فريد إدنه قال له أبو برداغة إنه ابن حارتهم الأستاذ أمجد صار في بيت خالته. حك فريد إدنه، وصار يتذكر، وقال: خالته سمية اللي متجوزينها بيت المحمدو من الحارة القبلية، ولا خالته وصال اللي إبنها محمد علي الباتنجي؟
أبو برداغة: بالفعل إنك كر يا فريد. أخدوه ع بيت خالته يعني صار في الحبس، وسمعت إنهم ضاربينه ومعذبينه وبالأخير شالفينه في المنفردة.
استخدم فريد في الرد على أبو برداغة اليمين اللي بيستعمله دائماً وقت بيتمسخر على حدا. قال له: علي الطنطراق، وعليك اطْلاق الفَشَكْ يا أبو برداغة إنت جحش هردشّ (يعني جحش مسنّ)، عم تقلي إنهم أخدوه ع بيت خالته وقتلوه.. مين هني اللي أخدوه؟ وليش أخدوه؟ وليش ضربوه؟ وليش هوي ما ضربهم؟ وأشو هاي المنفردة؟
شرح أبو برداغة لفريد إن المخابرات هني اللي أخدوا الأستاذ أمجد لأنه شوعي (يقصد: شيوعي)، والمنفردة غرفة متل هاي اللي حاطك أبوك فيها. وضحك أبو برداغة، وقال: لا تكون أنت كمان شوعي ولاك فريد الجحش؟
أبو المراديس: أبو برداغة قال عبارته الأخيرة وهرب، لكن فريد مو معتاد يخلي هيك قصة تمرق بسلامة.. المهم بقى سيدي، وضع فريد في السجن، متلما بتعرفوا، بينتهي مع عودة أبو خلو وخليل وأحمد من الفلاحة، وأول وجبة طعام بياكلها فريد مع كامل الأسرة هي العشا. كان أبو خلو وخليل وأحمد عم ياكلوا بشراهة، لأن الشغل في الفلاح متعب كتير، وفجأة قال فريد لأحمد: يو خاي أحمد، دير بالك، رفيقك أمجد أخدوه المخابرات وصاروا يقتلوه لأنه صاير شيعي.
توقف الجميع عن تناول الطعام، وتجمدت اللقمات في حلوقهم، وبالأخص نورية شقيقة فريد، لأن أم أمجد أجت من كم يوم، وحكت مع أم خلو، وطلبتها لأمجد.
صاح أبو خلو: أشو عم تحكي ولاك جحش؟ شلون يعني أمجد صاير شيعي؟
فريد: والله يا ياب، أنا ما بعرف.. كنت قاعد في داري، وكافي الناس خيري وشري، أجا لعندي أبو برداغة، وعرض عليّ إشتري منه كلبة جعارية مبركعة، قلت له شوفة عينك، إذا اشتريت الجعارية وين بدي أحطها، أنا قاعد بهالغرفة متل سجن المنفردة، قال لي يعني إنته متل الأستاذ أمجد اللي أخدوه المخابرات وحطوه في المنفردة، قلت له ليش حبسوه؟ قال لي إنه اللهم عافينا صاير شيعي، وقال لي إنه هادا رفيق أخوك أحمد، دير بالك إذا بيضربوه لأمجد وبيعذبوه بيعترف ع أحمد. أنا قلت له أحمد مو شيعي. خاي أحمد، من حق؛ أنت شيعي؟
خليل: ياب أكيد فريد مو فهمان القصة، أمجد شيوعي، مو شيعي.
أبو خلو (غاضباً): ولك انشالله بيكون فَرْمَصُوني، أنا فاضي لهالعلاك المصدي؟ (لفريد) قوم انقلع من وجي، (لأم خليل) بعد هالمرة بتحطي لي أكل يتزهرم لحاله، يخرب بيته، ما في مرة قعد معنا ع العشا إلا وعمل لي صرعة.
أبو المراديس: بعدما خليل سحب فريد وطالعه من أوضة الجلوس، اقترحت أم خلو على أبو خلو إنه يروح هوي وخليل وأحمد يستفقدوا أبو أمجد ويواسوه منشان إبنه، كمان بيستفهموا منهم عالقصة شلون صارت.. ويا ترى صحيح أحمد ممكن يتضرر من هالشغلة متلما قال فريد.
أبو خلو: لسه بتقلي فريد، كأنه فريد رشدي بيك الكيخيا أو ناظم القدسي. خلص لا بقى تنقي، منروح. ولا أقول لك؟ روحي إنتي لعند أم أمجد، واسأليها من تحت لتحت عن هالقصة. ومنشان خطبة أمجد لنورية، قولي لها ما في نصيب. أنا ما ناقصني وجع راس مع المخابرات.
أحمد: طول بالك ياب، أنا صحيح رفيقه لأمجد، بس الله وكيلك مالي علاقة لا بشيعي ولا بشيوعي. ما طول النهار أنا وإنت وخليل في الفلاحة؟ ولا نسيت؟
(للسيرة تتمة)