المجنون فريد ابن أبو خلّو (6)
عاد أهل الحارة التي يسكن فيها العم أبو خلو من رحلتهم إلى "مقام الشيخ عبد الحنان"، حاملين معهم جثمان العم "الحاج برهو اخرطي" الذي توفي أثناء الرحلة، رحمه الله.. وبعد وصولهم بقليل صدحت أصوات المؤذنين في معظم مساجد البلدة بعبارة: سبحان من تفرد بالبقاء، سبحان من كتب على عباده الفناء. إخواني لقد توفي إلى رحمة الله وعفوه أخوكم بالله الحاج برهو اخرطي أبو سليمان..
راوي السيرة أبو المراديس: أنا قلت لكم، في السهرة الماضية، إن هدف الناس من زيارة مقام الشيخ عبد الحنان طبي، علاجي، بحت.. لأن عندهم اعتقاد غريب إن هالضريح بيشفي من كل الأمراض السارية والمستعصية، حتى السرطان! والحقيقة إنه كل واحد من المرضى اللي كانوا عم يزوروا المقام مُصاب بمرض واحد، يعني، مثلاً، فريد مصاب بالصرع، وكان معهم في الرحلة ولد قالت أمه إنه صار عمره تسع سنين ولسه بيشخ في فرشته بالليل، وفي واحد عنده مرض تَوَحُّد، وفي مَرَا متجوزة من أربع سنين ولهلق ما حبلت، وفي مَرَا تزوج زوجها عليها وبدها تطلب من المقام إنه يوقع البغضاء بين زوجها وزوجته الجديدة.. إلا الحاج برهو اخرطي، الله يرحمه، كان عنده ست أمراض رئيسية ما عدا الفراطة.. هوي عمره 84 سنة، والتقدم بالسن بحد ذاته مرض، ومعه سكري، وعنده ضخامة في البروستات، وبيعاني من ارتفاع في الضغط الشرياني، ومن مدة ورم خده وصار معه حودير، وورمت رجله اليمنى وصار يقلج (يظلع) أثناء المشي، وكانت ثالثة الأثافي الجلطة الدماغية اللي انصاب فيها من شهرين وأثرت على حركة شفته الفوقانية وأيده اليسرى. باختصار هادا الرجل لازم يكون متسطح في قسم العناية المشددة بالمستشفى، أو متسطح في بيته، ومندار عَ القبلة، وأهله قاعدين حواليه عم يقروا له آيات قرآنية حتى يموت على الإيمان.
حنان: عنده كل هالبلاوي الزرقا، وبياخدوه أهله على مكان مقطوع في البرية، وبينيموه على دشك رقيق؟.. وفوق كل هاد، فريد موجود في الرحلة!
أبو زاهر: دقيقة يا أبو مرداس، قبلما تكمل القصة.. أشو هاي "تمشَّط وتبسَّم"؟
أبو المراديس: يا ستي هادا اللي صار. وعلى فكرة، كل شي حكيناه كوم، ووجود فريد في الرحلة كوم تاني. أنا حكيت لكم إنه فريد بعدما سطا على زوادات الجيران، وأكلها، تسطح لحتى ينام، وسمع صوت رجل عم يئن ويتوجع.. الرجل هوي الحاج برهو اخرطي، وطبعاً فريد كَيَّف على هالشغلة، زحف لعنده، وصار يسمع أنينه ويجاوبه بجملة عدوانية، يقول له، مثلاً: وقواس في زلعومك.
أو: وضريب تخلع نيعك خلع.
أو: يبعت لك فشكة في صرصورة إدنك..
بعدين الحاج برهو سكت، وفريد شعر بأنه مهمته انتهت، فرجع ع الدشك تبعه، وحط راسه ونام. ولما أصبح الصباح فاقوا الناس، لقو الحاج برهو عاطيكم عمره. فقطعوا رحلتهم ورجعوا ع البلد.
المهم، تاني يوم، في البلد، كان فريد واقف في غرفته (سجنه) وراقم وجهه على الشباك المطل ع الزقاق، وعم يشوف الناس ماشيين في الحارة ومستعجلين، وهادا أمر بالنسبة لفريد مثير جداً، منشان هيك صار يستوقف المارين ويسألهم: خير يو خاي؟ أشو في؟ أشو صاير في البلد؟
طبعاً في ناس بيتحاشوا فريد، ما بيسلموا عليه، ولا بيوجهوا أنظارهم باتجاهه، وإذا سألهم سؤال ما بيردوا عليه، وفي ناس بيحبوا شخصيته، وبيعتبروه كائن ظريف، كائن شبيه بالضبع لما بيكون في القفص، يعني صحيح هوي كاسر، لكن في هاللحظة ما بيحسن يئذي حدا.
من جملة الناس اللي كانوا مارقين في الزقاق، "أبو أحمد الفنكري" اللي معروف عنه حبه للمشاكل وإيقاع الفتن بين الناس، لما أبو أحمد شاف فريد حايص، وعم ينادي للناس العابرين في الزقاق قرب منه، وقال له:بسلامتك من هالحبس في الأوضة يا سيد (تمشَّطْ وتبسَّمْ)..
أبو زاهر: دقيقة يا أبو مرداس، قبلما تكمل القصة.. أشو هاي "تمشَّط وتبسَّم"؟
أبو المراديس: فريد كان إله ألقاب كتيرة، آخرها "تمشط وتبسم"، لأنه هاي العبارة كان يقولها لزملاؤه في المدرسة قبلما يصورهم ويضربهم بالحقيبة التنكية على روسهم. المهم فريد رد على أبو أحمد الفنكري: أهلين فنكور.. ما قلت لي، ليش هالناس معبوطين ورايحين ع طريق الساحة؟
الفنكري: بدهم يلحقوا الصلاه بجامع الساحة عالمرحوم "الحاج برهو اخرطي".
ضحك فريد وقال: الحاج برهو مات؟ الله يرحمه. بتعرف شلون مات؟
الفنكري: أي ما بدها معرفة، هو رجال كبير وخلص عمره. صح ولا مو صح؟
فريد: لأ مو صح. الرجال ما كان فيه شي، أنا مَوَّتُّه!
أبو أحمد الفنكري اندهش، وسأل فريد: عم تحكي جد؟ شلون مَوَّتُّه؟
فريد: مبارحة رحنا عَ زيارة الشيخ عبد الحنان، كنا شي خمس عيلات من الحارة. بعيد عنك أمي وأبوي عقلهم زغير، أخدوني لهنيك مفكريني مجنون. مع أني الله وكيلك عقلي بيوزن جبل.
الفنكري (هازئاً): عم تقول هالحكي إلي؟ أنا بعرف إنه عقلك بيوزن جبل. إنت ما لازم أهلك ياخدوك ع الشيخ عبد الحنان. لازم يفتحوا لك مضافة بنص البلد، منشان أي إنسان في عنده مشكلة مستعصية يجي يستشيرك ويستفيد من كبر عقلك!
فريد: بلا طول سيرة أخدونا ورحنا. أنا في الليل جعت. أكلت الزوادة تبع أهلي، ما شبعت، صرت إزحف بشويش، وكلما طلعت معي زوادة كنت أفتحها وآكل اللي جواتها، والأكل كله كان طيب، ما عدا زوادة الحاج برهو اخرطي، الخبز اللي فيها يبسان، والأكل كله مالح..
الفنكري: إذا الأكل مالح والخبز يابس ليش أكلتها؟
فريد: كنت جوعان كتير يا خاي، منشان هيك أنا كتير تضايقت من هاد الحاج برهو.
الفنكري: تضايقت منه قمت قتلته؟
فريد: أشو قتلته وما قتلته؟ الله وكيلك ما دقرته. بس اللي ضايقني إنه فوق ما أكلاته سيئة، متسطح وعم يئنّ ويعنّ.. هون أنا استلمته، كلما يقول (آخ يا خاي)، كنت أقول له: وقواس في زلاعيمك.. وبقيت مستلمُه هيك لحتى سكت، فعرفت إنه مات. ووقتها رجعت عالدَشُّوكة تبعي وحطيت راسي ونمت!
(للقصة تتمة)