المستورون تحت التراب
(قصة قصيرة من أرشيفي)
التقيت صديقي عبد الله الكركاطي بعد طول بعاد. وجدته مسروراً ضاحكاً، يميل في وقفته على ساق، ويمدّ الأخرى إلى الأمام، يَدُهُ اليمنى في جيب بنطاله، وأمّا اليسرى فممسكة بسيجارة أميركانية فاخرة، يمجّ منها بطريقة استعراضية، وينفث الدخان على دفعات. سألته عن مغيّر الأحوال، فقال لي: طلعت لي ورتة من المرحوم جدي الحاج أحمد الكركاطي!
- محرزة إن شاء الله؟
- طبعاً. ثلاثة آلاف ليرة سورية.
قلت متهكماً، ضاحكاً: ما شاء الله. رزقة لا تأكلها النيران!
- لا تضحك. هي، بالنسبة إلي، محرزة جداً. صدقني حينما استلمتها لم يكن معي أي نوع من العملة الورقية أو المعدنية، ولذلك فقد وجدتها، كما تقول حضرة جنابك "رزقة لا تأكلها النيران". وبمجرّد ما قبضتها اشتريت للأولاد ما يزفِّـر، وما يحلّي، وما يملّح، وما يفكّه، واشتريت لنفسي، كذلك، كروز دخان أميركانياً، لأنّ تدخين التبغ "القَجَقْ"، عبر السنين، جعل صدري مثل باب التواليت الخشبي عندما يتخّ من فرط الرطوبة وطرش الماء عليه.
- ولكنّني أعرفك مفلساً زملُّوطياً، أباً عن جد، وكابراً عن كابر، فما قصة هذه الورثة المفاجئة؟
تدخين التبغ "القَجَقْ"، عبر السنين، جعل صدري مثل باب التواليت الخشبي عندما يتخّ من فرط الرطوبة وطرش الماء عليه
- هاهاه، أنت سألتني، وأنا أجيبك: كان جدي الحاج أحمد الكركاطي، رحمة الله عليه، غير مديون لأحد، وكانت لديه مؤونة من الحنطة والبرغل والتين والزبيب والزيت تكفيه لسنة كاملة، فشعر بأنّه آغا زمانه، وفتح مضافة. وحينما مات، العمر لك وللأوادم شرواك، أقفلنا، نحن أحفادَه، المفلسين العائفين ردّ السلام، المضافة إلى غير رجعة، حتى صارت مرتعاً للأوساخ والغبار والعناكب وما إلى ذلك. وراحت أيام وجاءت أيام، وإذا بابن عمي عموري يأتيني ويقـول لي: إنني أفكر بشراء هذه المضافة من الورثة وتحويلها إلى مخزن للحبوب. قلت له:
- هذا كلام يوزن بالذهب، وأنا موافق، ومستعد أن أبيعك حصتي الآن. قل لي، كم تسـوى؟
قـال: حصتك تقريباً ثلاثة آلاف ليرة.
قلت له: توكلنا على الذي لا تغمض له عين! اكتب هنا، امضِ هـنا، مضيت، قبضت وانتهى الإشكال.
زفر عبد الله زفرة قصيرة وتابع يقول: ولكن عموري رجع إليَّ بعد ساعة يرجوني إعادة المبلغ إليه مقابل تمزيق سند البيع، ذلك أن الوَرَثة الآخرين امتنعوا عن البيع، فقلت له: يا عموري، أنا بعت حصتي، والمثل يقول: البيع فَـرَج! شكا، وبكى، واسترحمني بتراب الكركاطي الكبير الراقد في قبره بأمان، ولكنه لم يسمع مني سوى عبارة: أنا بعت والبيع فرج ولا أتراجع.
في السهرة اجتمع عندي في البيت عموم آل الكركاطي، ورجوني أن أعيد له المبلغ، ولكن مستحيل. المشكلة أنني رجل، والرجل لا يرجع بكلامه يا أبو مرداس!
عموري رجع إليَّ يرجوني إعادة المبلغ إليه مقابل تمزيق سند البيع، ذلك أن الوَرَثة الآخرين امتنعوا عن البيع، فقلت له: يا عموري، أنا بعت حصتي، والمثل يقول: البيع فَـرَج!
أخيراً تفتّق ذهن ابن عمي أمجد عن فكرة. قال:
- نحن أيضاً نبيع حصصنا، ولأنّ ثمنها غير محرز، تعالوا نوظفها في عمل خيري.
قلت: والله العظيم أمجد على حق، وظفوا حصصكم في عمل خيري تنالون ثواباً عظيماً.
قالوا: وأنت؟
قلت: أنا بعت، والبيع فَرَج.
قالوا: نقصد ألن تساهم معنا في العمل الخيري؟
قلت: "قد" أساهم، ولكنني أحب أن أعرف ما هو أولاً.
قال ابن عمي محمود: اليوم مررتُ بمقبرة العائلة فوجدت فيها قطيعاً من الماعز يرعى العشب النابت حول القبور، ورأيت آثار مرور حيوانات أخرى من القياس الكبير، بصراحة؟ إنها ممتلئة بفضلات هذه الحيوانات. لذلك أنا أرى أن نُسَوِّر المقبرة بثمن المضافة، وفضت يا عرب.
قلت: والله نعم الرأي.
قالوا: عال، هذا يعني أنك سوف تساهم بحصتك معنا.
قلت: أنا أساهم؟ مَن الذي لعب بعقلك وأوهمك أنّ من الممكن أن أساهم؟ عليّ الطلاق، بعدد حبات عمود سمسم ممتد ما بين الأرض والسماء، لو كنت واقفاً الآن على أرض المقبرة، ومدّ جدي الحاج أحمد، صاحب المضافة التي بعتُ حصتي منها، وعمي عمر، وخالي نديم، وابن أخي مصطفى الذي دعسته سيارة على الأوتوستراد.. لو مدّوا رؤوسهم من القبور، ولفوا أيديهم حول ذقونهم، وقالوا بصوت واحد: يا عبد الله، كرمال الله.. ساهم.. لصحت بهم قائلاً: انزلوا، وبلا كثرة حكي، ألا يكفي أنكم مستورون تحت التراب وأنا مفضوح فوقه؟ انزلوا.