المقولة التي أنارت بصيرتي
صحوت يومًا على منامٍ رأيت فيه عبارة واضحة المعالم، لدرجة أنها بقيت عالقة في ذاكرتي حتى اليوم دون الحاجة لتدوينها. العبارة كانت: "من ألِف الكُلفة، فقد كَلِف الأُلفة". أوّل ما أثارني في هذه العبارة هو قالبها الفني الذي يتضمّن الجناس التام، أحد أروع بدائع اللغة العربية، الذي وُظِّف بمهارةٍ لخدمة غاية النص، بعيدًا عن أيّ ابتذال أو تكلّف.
في ذلك اليوم أمضيت وقتًا طويلًا أبحث عن أصل هذه العبارة، ظنًا مني أنها قد تكون مقتبسة من الشعر أو الأدب أو نصوص الموروث الديني، خصوصًا أنني من عشّاق الشعر وبلاغته. بحثت عنها عبر الإنترنت، وامتدّ بحثي ليشمل المراجع الأدبية والدينية، لكنني لم أجد لها أيّ مرجعية، ولم تكن منسوبة إلى أحد.
غالبًا ما تكون الأحلام انعكاسًا لمشاعرنا وأفكارنا الداخلية. عبارة "من ألِف الكُلفة، فقد كَلِف الأُلفة" تحمل دلالات قد تتصل بما كنت أمرّ به خلال تلك الفترة. العبارة تشير إلى أنّ الشخص الذي اعتاد مواجهة الصعوبات والتحديات (الكُلفة)، قد يجد صعوبة في التكيّف مع فترات الراحة والسكينة (الأُلفة). ما جعل العبارة تُلامسني شخصيًا، أنها وصفت بدقة حالتي آنذاك، حيث كنت غارقًا في ضغط العمل وتعدّد المهام، حتى أصبحت متآلفًا مع هذا النمط من الحياة. ومع ذلك، كنت أشعر دائمًا بوجود التزامات غير مكتملة، وعدم الرضا حتى عند إنجاز كلّ المهام المطلوبة.
الاعتياد على الكُلفة والصعوبات يمكن أن يجعل ما هو بسيط أو مألوف، يبدو وكأنه معقّدًا ومجهدًا
اعتياد الكُلفة والصعوبات يمكن أن يجعل ما هو بسيط أو مألوف يبدو معقّدًا ومجهدًا. قد يُفضّل الشخص البقاء في دائرة ما يعرفه، حتى وإن كان مرهقًا، على مواجهة المجهول أو التغيير نحو الراحة والألفة.
حين حاولت تحليل العبارة بعيدًا عن تجربتي الشخصية، وجدت أنّها تحمل أبعادًا أوسع. على المستوى المجتمعي، يمكن أن تُفسّر العبارة بأنّ المجتمعات التي اعتادت الأزمات المستمرة قد تفقد قدرتها على التكيّف مع فترات الاستقرار. أحيانًا، تُبدي هذه المجتمعات أو أطياف منها، خصوصًا الأقليات، ارتيابًا من فترات الهدوء، ما يعوق تحقيق تعايش سلمي يدعم بناء علاقات إنسانية متينة.
كذلك قد تعكس العبارة فكرة التوازن بين الجديّة (الكُلفة) والعفوية (الأُلفة) في العلاقات. إذا اختلّ هذا التوازن، تصبح العلاقة صعبة، وتفتقر إلى مساحة الحوار البنّاء الذي يحقّق الودية والتفاهم.
لا أعتقد أنّ مخزوني اللغوي يمكنه إنتاج عبارة بمثل هذا العمق. قد تكون العبارة رسالة من العقل الباطن، أو ربما كانت تحمل مغزى خاصًا. لكن ما أنا متأكد منه، أنّ هذه التجربة كانت استثنائية، وتحمل شيئًا من العمق الذي يستحق الذكر. ولهذا كتبت هذا المقال بعنوان: "المقولة التي أنارت بصيرتي"، مستلهمًا من عنوان كتاب جيل بولتي "الجلطة التي أنارت بصيرتي".