المهاجر.. فرصة للبلد المضيف أم؟
تُزرع شجرة زيتون في المغرب، فتُؤكل ثمارها في هولندا، تُعصر في تركيا، ويُستخدم زيتها في مطابخ بغداد، ثم تُزرع بذورها في سورية، لتنمو شجرة زيتون مجدّداً في عفرين، فيؤكل زيتونها في أثينا، وتُستخرج زيوتها في روما، ويُطبخ به في طنجة. لم يعد المرء اليوم بحاجة إلى أن يزور باريس ليتذوّق أجبانها، ولا أمستردام ليتأمل طواحينها، ولا أن يُسافر إلى إسطنبول ليرى توليبها، ولا يحتاج أن يقيم في دمشق كي يشم رائحة ياسمينها، ولا أن يقصد حلب كي يتذوق كبّتها ويرتدي من أقمشتها.
ليس على المرء اليوم أن يعيش في الرياض كي يأكل من تمورها، ولا أن يذهب للقاهرة ليرتوي من نيلها. لم تعد تلك ذكريات يحملها المهاجرون معهم من أماكن ولادتهم فيحتفظوا بها لأنفسهم فقط، إنّما هي منتجات أجدادهم التي يحملونها في حقائبهم، فيثروا بها أماكن إقامتهم الجديدة. يصحب المهاجر معه قروناً من إرث أجداده ليضيف لوناً جديداً للمكان الذي يأوي إليه. فإذا كان البلد المضيف ربيعاً، فطُوبى للضيف وللمضيف، أما إذا كان المضيف خريفاً لا يتسع للألوان، فسيضيق بالمهاجر الذي سيحاول أن يتكيّف مع اللون الوحيد لخريف البلد المضيف ويخسر كلاهما اللون الجديد.
تلقيت دعوة مؤخراً من تلفاز محلي في مدينة ألميرا الهولندية التي أعيش فيها، للمشاركة في صنع برنامج باللغة العربية. يرى القائمون على إدارة المحطة التلفزيونية، بأنّه يجب أن يكون للعرب في المدينة، وخصوصاً القادمين الجدد، مساحة للتعبير عن أنفسهم، والحديث عن قضاياهم ومشاكلهم وبلغتهم الأم. كما لا يجب أن يُحرم من لم يتمكن من تعلم اللغة الهولندية بعد من نفس المساحة للمساهمة في تطوير هذه المدينة. حيث يؤمن أصحاب القناة، بأنّ المهاجرين لديهم طاقات كبيرة، ووجهات نظر نقدية مختلفة عن وجهات النظر التي يحملها من وُلد في المدينة، وقضى معظم حياته فيها. وإنّ التجارب والخبرات التي يحملها المهاجرون عادةً من بلادهم الأم تساهم في خلق أفكار جديدة تدفع المدينة لتحقيق مزيد من التقدّم الإنساني والانسجام الاجتماعي. وليست المسألة خاصة باللغة العربية، فلا يتوقف مدير القناة عن الحديث عن رغبته بمنح مساحة لبرامج بلغات أخرى، كلّما توافر لها الإمكانات البشرية المناسبة لذلك.
لم يعد المرء اليوم بحاجة إلى أن يزور باريس ليتذوّق أجبانها، ولا أمستردام ليتأمل طواحينها، ولا يحتاج أن يقيم في دمشق كي يشم رائحة ياسمينها
وفي الأسبوع نفسه، دُعيت للمشاركة في حفل افتتاح حديقة "دار السلام" في ألميرا، والذي يديره مجموعة من الأصدقاء المغاربة الهولنديين. وتضم الحديقة الجديدة زهوراً من تُرب مختلفة من العالم، حملتها أيدٍ مهاجرة، رعتها وخلقت لها ظروف الحياة في التربة الجديدة. لم تكن هذه المدينة لتحظى بهذه الورود لو لم تتسع لمهاجرين ساهموا بإرث أجدادهم في تربة هذه المدينة، والتي يُشارك في إدارة مجلسها المحلي أيضاً شخصيات من خلفيات مهاجرة تعود لدول مختلفة. وكلّ منهم يصحب معه خبرات من بلده الأم بطريقة أو بأخرى، ويصبّها في وعاء هذه المدينة.
إنّ التنوّع الذي يحمله المهاجرون عادة يقدّم إسهامات كبيرة، وفي كلّ المجالات للبلد المضيف. والإنسان الطبيعي، سواء كان مولده بالتراب نفسه الذي يعيش عليه أو مهاجراً إليه، لا يزرع إلا ثماراً طيبة. وحدها السلطة السياسية وأُجراؤها من يزرعون الثمار الخبيثة والأسلاك الشائكة. ولا يتحوّل البشر أعداءً لبعضهم البعض إلا عندما يأكلون من ثمار السلطة.