"الناس يريدون ذلك".. ماذا نريد نحن؟
عند التفكير في المواضيع التي تلتقط أنظار الجمهور وتحظى بتغطية إعلامية واسعة، نلاحظ أنّ معظمها فارغة من أيّ محتوى أو معنى، بل ربما تكون مجرّد عناوين مثيرة للاهتمام، مثل فضائح فنانين يحتلون شهرة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك أيضاً الفيديوهات التي تحظى بشهرة واسعة وتُسفر عن الربح المالي لأصحابها بعد تحقيقهم الشهرة عبر إنتاج محتوى سطحي خالٍ من أيّ مضمون.
ومن المثير للسخرية أنّه في كلّ نقاش تُثار فيه هذه الحالة العامة من السطحية والذوق العام يتم الاكتفاء بإجابة بسيطة ومرنة يُعاد تكرارها دائماً، تقول: "الناس يريدون ذلك". وعلى الرغم من أنّ المجيب نفسه ينتمي للناس، فإنه من المهم أن نتساءل: من هؤلاء الناس الذين يطلقون العنان لهذا النوع من الذوق والسطحية والابتذال؟
في سياق مُتصل، يتبادر إلى الذهن مشهد من فيلم "الكيف" الذي أنتج في عام 1985، حين يبحث المُطرب مازجنجي (محمود عبد العزيز) عن شاعر يكتب له أغنية. وعندما يُقدم الشاعر له كلمات يعتقد صاحبها أنها جادة وذات أهمية، يرفضها ويطلب منه كلمات تافهة ليغنيها، مستنداً إلى نفس المقولة الرديئة "الناس يريدون ذلك".
في ما يتعلق بـ"هؤلاء الناس"، هل هم نظام سياسي عالمي أم مؤسسة تعمل خلف الكواليس للسيطرة على عقول الأفراد والتحكّم في رغباتهم؟ هذا السؤال يُطرح بين الحين والآخر، ومن حسن الحظ أنّ هناك من حاول البحث عن هذه الأجوبة. يتحدث الكاتب والمحاضر في جامعة باريس آلان دونو في كتابه الشهير "نظام التفاهة" عن هؤلاء الناس أو "التافهين" من وجهة نظره، حيث يشير إلى أنّ الانحدار العام في الذوق هو نتيجة سلسلة من الأحداث المتراكمة التي أدت إلى سيطرة هؤلاء الناس في جميع المجالات، بما في ذلك مراكز الحكم.
يتحدّث الكاتب عن الأسباب التي تحوّل الأفراد نحو سلعة محدّدة وإلى سلعة للبيع أيضاً، ويتعدّى تحليله رأسمالية المؤسسات الربحية ليشمل دور المؤسسات الأكاديمية والسياسية في صناعة أسس هذا النظام. ويؤكد الكاتب أنّ الحل الوحيد لهذا المشكل هو "القطيعة الجمعية" وليس الخلاص الفردي وحده.
نُدرك جميعاً أنّ الخيارات التي نملكها تخوّلنا الاختيار، إما أن نكون جزءاً من نظام "الناس يريدون ذلك" أو أن نرفع رؤوسنا للأعلى قليلاً!
تفتح مثل هذه الأسئلة مجالاً أكبر في البحث عمّا قد تؤدي إليه مثل هذه السلوكيات ونتائجها. أحياناً، يساعد الخيال الدرامي في بناء تصوّرات ما أو على الأقل توّقعها. في الفيلم الأميركي "لا تنظر للأعلى" الذي أنتجته نتفلكس لعام 2021، يتم استعراض رمزية الأعلى لتدلّل على المعرفة والمواضيع الجديرة بالاهتمام.
يستعرض الفيلم قصة علماء فلكيين يكتشفون أنّ الأرض ستتعرض لهجمة من نيزك مفترس ليدمرها كاملاً، وبينما يحاولون تحذير العالم وجذب اهتمامه، يتم تجاهلهم بصورة عبثية من كامل مؤسسات المجتمع، سواء من قبل مؤسسات الإعلام المنشغلة بما "يريده الناس" أو من السياسيين ورجال الأعمال الساعيين نحو مصالحهم الشخصية، لتكون النتيجة حتمية الانهيار الجمعي والفردي.
خلاصة القول، نُدرك جميعاً أنّ الخيارات التي نملكها تخوّلنا الاختيار، إما أن نكون جزءاً من نظام "هؤلاء الناس" أو أن نرفع رؤوسنا للأعلى قليلاً!