النسوية كرحلة جبلية
وهنا لا أستعير فقط عنوان كتاب فدوى طوقان "رحلة جبلية" كمقاربة لفهم النسوية، أو كما تقول طوقان: "قصة الكفاح مع العطش والصخر"، ولكن سأذهب إلى صاحبة الرحلة أيضاً لكي أصعد معها إلى الطرقات الوعرة التي سلكتها منذ أن كانت توقّع قصائدها باسم "دنانير"، وهو اسم جارية، ومن بعدها اختارت أن تسمى "بالمطوّقة"، وهي إشارة وتورية: إذْ تشير إلى نسبها، إلى عائلة "طوقان"، وفي نفس الوقت تشير إلى التطويق الاجتماعي الذي تعيشه.
"خرجت من ظلمات المجهول إلى عالم غير مستعد لتقبلي؛ أمي حاولت التخلص مني في الشهور الأولى من حملها بي، حاولت وكررت المحاولة ولكنها فشلت". تأتي النساء إلى عالم غير مستعد وغير مرحب باستقبالهن، إلا من أجل إعادة إنتاج الحياة كما تم تأطيرها وتوثيقها على النحو القائم، والمفارقة، رغم المحاولات المتكررة للأمهات للتخلص من البنات، فهن يكسرن البيضة ويخرجن إلى العالم ويحملن دائماً وجع هذا الرفض.
عشر مرات حملت أم فدوى، وولدت خمسة بنين وخمس بنات، ولكن عندما جاء دور فدوى لم تكن الأم مستعدة ولم يكن العالم مرحباً، كأنها الرقم الزائد، فهي رقم "11"، وقد حصلت الأسرة على رقم "10" وهو مكتمل وتام. ولما جاءت فدوى، لا تذكر الأم، لا اليوم، ولا السنة، ولا الفصل. تسأل فدوى أمها: "لكن يا أمي على الأقل في أي فصل؟ في أي عام؟ فتجيب ضاحكة: (كنت يومها أطهو "عكوب")؛ هذه شهادة ميلادك الوحيدة التي أحملها".
العكوب نبات شوكي، ينبت في جبال نابلس، ينمو في فبراير/ شباط ومارس/ آذار وإبريل/ نيسان، يطبخ مع اللبن بعد إزلة قشرته الخارجية، وهو طبق شعبي في فلسطين. نبات العكوب هنا يرافق رحلة فدوى الجبلية ويزهر في طريق فهم النساء للعالم. وجبة العكوب وتاريخ استشهاد ابن عم الأم، كامل عسقلان، فهي كانت حاملاً بفدوى في شهرها السابع، فراحت فدوى تطلب من أمها أن تدلها على قبر ابن عمها كامل، فهو دليلها على استخراج شهادة ميلاد. تكتب صاحبة الرحلة الجبلية: "بين عالم يموت وعالم على أبواب الولادة، خرجت إلى هذه الدنيا. الإمبراطورية العثمانية تلفظ آخر أنفاسها، وجيوش الحلفاء تواصل فتح الطريق إلى استعمار غربي جديد عام 1917".
كانت فدوى طوقان ذات بنية ضعيفة ومنهكة بسبب إصابتها بالملاريا، وكثيراً ما كان الناس يتنمرون ويقولون: "تعالي يا صفراء. روحي يا خضراء"
كانت فدوى طوقان ذات بنية ضعيفة ومنهكة بسبب إصابتها بالملاريا، وكثيراً ما كان الناس يتنمرون ويقولون: "تعالي يا صفراء. روحي يا خضراء". عاشت مع مربية تدعى "السمرة"، وكان دور الأم فقط للرضاعة، وعندما كانت تحكي الأم عن طرائف طفولة إخوتها، كانت فدوى بلا طرفة واحدة، ولو طرفة تافهة. فالأم لا تذكر عنها شيئاً، تقول فدوى: "أنكمش في داخلي، وأحس بلاشيئيتي: إنني لا شيء وليس لي مكان في ذاكرتها".
وفي تفسير قسوة الأم تقول فدوى: "غير أنني كنت أحس بوجود خيط من الشقاء اللامنظور يمتد في أعماقها، وحين كبرت عرفت مصدر هذا الشقاء الخفي. إنه الحصار والقهر الاجتماعي المفروض على المرأة في بيتنا".
تلك هي العلامات الأولى التي شكلت رحلة فدوى طوقان الجبلية: محاولات التخلص منها وهي بعد جنين، وتاريخ ميلاد غير معلوم، لا شيء يؤرخ لمولدها إلا نبات العكوب الجبلي، واستشهاد ابن عم الأم قبل مولدها بشهرين، وبنية جسمانية ضعيفة محفزة على التنمر، وأمُّ لا تحضر إلا في وقت الرضاعة. ولدت فدوى لكي تكشف عن الشقاء الخفي وتجعله علانيا، لكي تحول اللامنظور إلى مرئي.
ركض الوقت وخلفني
القانون الكوني تلاشي
لا جاذب يمسك أمتعتي
داري ما عادت دارا لي
طارت أمتعتي صارت
طار المقعد طار خواني
وحدي مع ظلي في الدار
لا أب لا أم
لا أخوات لا إخوة
لا شيء سوى الوحشة والغم
يثني ظهري يثقل خطوي
ركض الوقت وخلفني.
من قصيدة "وحشة" لفدوى طوقان