الوطن إذ يغدو كابوساً
كعادتنا نحن السوريين نختلف على كلّ شيء، وهي عادة حديثة العهد نسبياً للأجيال التي وُلدت أو كبرت في ظلّ حكم آل الأسد. ولكون الاختلاف بالرأي ليس بالعادة القديمة المتأصلة لدى الأجيال الشابة من السوريين، فهي بدأت تتبدّى بالظهور بعد الثورة السورية، أو بالأحرى كمكسب من مكاسبها، فلذلك لم تنتظم هذه العادة بعد، ولم تتضح قوانينها الاجتماعية.
الاختلاف بالرأي (بالنسبة لي) ليس أمراً سيئاً، بل على العكس هو أمر طبيعي وصحي، إلا أنّنا كنّا نظنّه عكس ذلك لأنّنا لم نألف هذا الأمر منذ الطفولة. ففي سورية، كان على الفرد أن يتفق مع الرأي السائد، رسمياً كان أم غير رسمي، وفي معظم المواضيع. واتخاذ رأي آخر مختلف عن رأي الأغلبية، كان يُعتبر نوعاً من أنواع الفذلكة إن كان الموضوع شعبياً، لكنه كان مسموحاً، وإن كان ذلك مستهجناً في الإطار الاجتماعي. أما إذا كان موضوع الحوار سياسياً، فالرأي المخالف لما هو رسمي وسائد، قد يُعتبر نوعاً من أنواع الخيانة، وذلك بحسب مدى الاختلاف عن الرأي العام. وإن كان الموضوع دينياً، فيصبح الرأي المخالف شكلاً من أشكال الخروج عن الملّة. نظرياً، كنّا نؤمن بأنّ الاختلاف حق من حقوقنا، لكنه رفاهية زائدة أحياناً، وخطر محدق أحياناً أخرى، ولذلك لم نمارس هذا الحق عملياً إلا قبل سنوات قليلة، وعندما استطعنا ممارسة الاختلاف سبيلاً، ذهبنا في استخدام هذا الحق حدّ الثمالة.
في جلسة جمعتني مع بعض الأصدقاء مؤخراً، وهم أصدقاء الوطن والمنفى، الأصدقاء الذين يتقاسم المرء معهم فرحه وترحه، تعدّدت الآراء في كلّ المواضيع التي تداولناها، فاختلفنا بتعريف الحنين إلى الوطن، واختلفنا بتوصيف المنفى، واختلفنا بتوزيع مكاسب السياسيين في الحروب الحالية على هذا الكوكب، واختلفنا بتحديد مصائب الشعوب في حكامها، سواء الشعوب التي كان لها اختيار قادتها أم الشعوب التي لم يكن لها مثل هذا الحق. اختلفنا أيضاً، في ما إذا كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، يساعد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في حربه ضد فلاديمير بوتين، أم يستخدمه لمصلحة أميركا وحلفائها.
كما اختلفنا إن كان أجدادنا قد ظلمونا حينما أورثونا عبء قضايا وحمل حروبٍ لا علاقة لنا بها نحن الأجيال اللاحقة. وكان رأيي بأنّ كلّ الحروب ذنوب وليس هناك حرب مقدسة، فلا فرق بين حرب البسوس ومعركة الجمل.
اختلفنا إن كنا أيضاً سنؤلم الأبناء والأحفاد من جراح الأجداد. وحينما حضر الطعام اختلفنا على مذاق الزعتر، وإن كان هذا الزعتر وطنياً لأنه قادم من الجغرافيا التي وُلدنا بها مصادفة، أم أنه مستورد لأننا نأكله في الجغرافيا التي نسميها منفى. اختلفنا في كلّ شيء تقريباً وضحكنا، وأسعدنا عملياً كلّ هذا الاختلاف. أما أنا فكانت فرحتي مضاعفة لأنني كلّما ألتقيت أصدقائي هؤلاء أعود إلى نفسي، حاملاً أفكاراً جديدة تُثري مخيلتي وتُغني كتاباتي.
كلّ الحروب ذنوب وليس هناك حرب مقدسة، فلا فرق بين حرب البسوس ومعركة الجمل
وفي نهاية اللقاء اتفقنا على شيء واحد وذلك ما أخافني. شاركتهم بكابوسٍ يراودني عن الوطن، إذ كنت أحلم بأنني في الحي الذي وُلدت به، والعسس في كلّ مكان وفجأة بدأت المطاردة، حيث دورية للشرطة العسكرية تلاحقني من يميني، وأخرى للشرطة السرّية من يساري، ثم دورية للمخابرات من الخلف، وأنا أركض هارباً من كلّ هؤلاء، مرتعداً في نومي حتى أصحو وأجد نفسي في المنفى الذي يُشعرني بالأمان.
ليس هذا كابوسي وحدي، إنما هو كابوس عام يلاحق معظم الشباب السوري على ما يبدو، فما إن بدأ أحدنا بالحديث عن كابوسه حتى أكمل الآخر تفاصيله. هذا هو الموضوع الوحيد الذي لم نختلف فيه أنا وأصدقائي، إذ اتفقنا أخيراً على أنّ الوطن قد أصبح كابوساً والمنفى أماناً.