اليواقيت الثمينة في صفات المرأة السمينة
تشريق وتغريب (2)
انقطع الاتصال بيني وبين صديقي معلم المدرسة الظريف "أبو أحمد"، بشكل مفاجئ.. وبقي أكثر من أسبوع غائباً، ثم فجأة رن هاتفي، وقرأت اسمه على الشاشة. قلت له ممازحاً:
- أين كنت في هذه الغيبة؟ مؤكد أن أبو محمد الجولاني قطع عنكم الاتصالات في هذه الفترة.
ضحك وقال: أي جولاني يا أستاذ؟ برأيي أن الحديث الذي كنا نحكيه أنا وأنت، في المرة الماضية، أهم بكثير من الجولاني والبغدادي وكل حثالات الدواعش.. أخي أبو مرداس، كنتَ تحكي لي عن "التشريق والتغريب" في الأدب، وتطرقنا إلى الأخلاق التي زعم بعضُ الناس أن الغرب أخذها عنا فكانت سبباً في تطوره، وفي مقدمتها الصدق. ولكنك نفيت ذلك، وقلت لي إن حضارة الغرب لم تقم على الصدق!
قلت: طبعاً، فالمجتمعات حينما تتطور يصبح الصدق فيها تحصيلاً لحاصل. وأنا سأزعم أمامك، الآن، أن الغرب تطور بأربعة أشياء رئيسية، أولها العلم، وثانيها الفلسفة، وثالثها العقد الاجتماعي وتداول السلطة سلمياً، ورابعها احترام القانون. وإذا كنت تصر على أننا، نحن الشرقيين، كنا مفيدين للغرب في يوم من الأيام، سأقول لك: نعم. استفاد الغرب من كتب ابن رشد، التي تُرجمت إلى اللغات اللاتينية قبل أربعمئة سنة، وتشكل عندهم تيار فلسفي سياسي عُرف باسم "الرشدية اللاتينية".. واستفادوا كذلك من مؤلفات ابن سينا، والفارابي، وابن النفيس، وابن خلدون..
- على هذا أنا أبصم لك بالعشر. ولكن قل لي. كيف سنرجع إلى المحور الأساسي لحديثنا؟
- كنا نتحدث عن الصدق الذي زعموا أن الغرب أخذه عنا.. وأنا الآن سأضعك أمام معادلة ألخصها بسؤال: هل كانت السمة الأساسية الغالبة على مجتمعنا هي الصدق حتى يأخذه الآخرون عنا؟
- بصراحة؟ يوجد في مجتمعنا نسبة جيدة من الناس الصادقين، ونسبة لا يستهان بها من الكذابين.
- عظيم، يعني أن الكذب موجود، وبنسبة معقولة.. ولكي نخرج من إطار التنظير تعال نستذكر الحكاية التي تُروى دائماً عن الكذابين، وبصيغ مختلفة..
- تفضل.
في السابق كان العرب يقولون لمن يشكك بكلامهم "الماء يكذب الغطاس".. الآن نقول لمن يشكك بكلامنا: محرك البحث غوغل يكذب الغطاس
- كان ثمة رجل كذاب، يجلس في المضافات، ويروي للحاضرين حكايات يزعم أنها حقيقية، ولكن عقل ولد صغير لا يمكن أن يصدقها.. وكان له صديقٌ يحبه، ويريد له الخير، اختلى به، ذات يوم، وصارحه بأن الناس يسخرون منه ويستهزئون من ولعه برواية الأكاذيب، وأن الأفضل له أن يُقلع عن الكذب، فقال:
- لا أستطيع الإقلاع عنه، صدقني إذا لم أكذب فإنني أشعر بوجع في رأسي، ورجفة في مفاصلي، وحكة جلدية.
قال له الصديق: طيب ما دام الأمر كذلك فلتكن أكاذيبك صغيرة، حتى يتمكن المستمعون من تقبلها.
ثم خرج الاثنان باتفاقية تنص على أنه حينما يباشر الكذاب بالكذب، وترتفع عنده نسبة الشطح، يشده صديقه من ياقة قميصه من الخلف، فيسارع إلى تصغير الكذبة. ومرة؛ كان الكذاب يقول إنه عَمَّر بناية في القرية، تتألف من ثلاثين طابقاً، ارتفاعُها 150 متراً، وطولها تسعون متراً.. وهنا شده صديقه من ياقة قميصه فقال: وعرضها نصف متر!
ضحك أبو أحمد وقال: أظن أننا استوفينا الحديث عن الكذب والأخلاق. ولكنني، بصراحة، ما زلت أفكر في موضوع "التشريق والتغريب في الأدب". أليس من الواجب المحافظة على الترابط، ووحدة الموضوع؟
- بلى. ولكن ثمة كتاباً يستطيعون التشريق والتغريب، ويحافظون، في الوقت ذاته، على الخط العام للحكاية، ووحدة الموضوع. أستاذنا حسيب كيالي، مثلاً، كتب إلي في إحدى رسائله من دبي، ممازحاً:
- أنا يا عين عمك، يا خطيب، عندما أكتب، أراني أشرّق وأغرّب، أو، كما يقول أهل إدلب (أكون في الطب، وفجأة أجد نفسي في البيطرة وقلع الأضراس دون بنج).
- أهنئك لأنك كنت تعرف الأستاذ حسيب كيالي. يقال إنه كان رجلاً ظريفاً جداً.
- نعم، وكان بعض معارفه يلقبونه بـ جاحظ القرن العشرين. وعلى فكرة، أنا لم أعرفه شخصياً، ولكنني أرسلت إليه في سنة 1989 رسالة، حيث كان يقيم في مدينة دبي، وضعت فيها المجموعتين القصصيتين الصغيرتين اللتين كنت قد طبعتهما في تلك الآونة، حكى لي الأخرس، وعودة قاسم ناصيف الحق. وهو رد عليّ برسالة طويلة، بعدما قرأ المجموعتين، وأعطاني رأيه بصراحة، وهو أنهما جيدتان (كبداية فقط)، ولكن الواجب عليّ أن أتجاوزهما فيما أكتب لاحقاً.. المهم أن المراسلة، بعد هذا، استمرت بيننا إلى يوم وفاته 9 يوليه 1993.. ولعلمك، أخي أبو أحمد، وبما أننا ذكرنا اسم الجاحظ.. إن أسلوب التشريق والتغريب في الكتابة لم يبدأ من عند الأستاذ حسيب كيالي، بل إنه أسلوب قديم، ربما يعود إلى بدايات تحول الثقافة العربية من ثقافة شعرية خالصة يُعَبِّرُ عنها القول بأن "الشعر ديوان العرب"، إلى النثر، وكان للنثر العربي، كما تعلم، أعلام كبار مثل أبي العلاء المعري، والجاحظ، وأسامة بن منقذ، وأبي حيان التوحيدي، وجلال الدين السيوطي الذي كتب في أشياء تبدو قليلة الأهمية مثل "رقائق الأترنج في رقائق الغنج".. وله كتاب يمتدح فيه المرأة السمينة عنوانه "اليواقيت الثمينة في صفات المرأة السمينة".
- أنت تمزح بالطبع.
- بل أنا جاد تماماً. في السابق كان العرب يقولون لمن يشكك بكلامهم "الماء يكذب الغطاس".. الآن نقول لمن يشكك بكلامنا: محرك البحث غوغل يكذب الغطاس.
- قسماً بالله يا أبو مرداس، شيء يضع العقل في الكف.. فهذا يعني أن المرأة السمينة لها ميزات، وجمال خاص.. فما بال رجال هذه الأيام يفضلون المرأة النحيلة، ولماذا النسوة يفعلن المستحيل، ويصرفن من المال الكثير لكي يجعلن أنفسهن نحيفات؟..
- هذا له علاقة، في رأيي، بالموضة.. ولكن، بالمناسبة، هل تعلم كيف كان أستاذنا حسيب كيالي يصور المرأة النحيفة؟
- كيف؟
- استطاع المعلم حسيب، منذ بداياته في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، أن ينحت لنفسه لغة خاصة، ويتميز بها. ففي وصف النحيفة، مثلاً، كان يقول: القصابُ الشاطر لا يستطيع أن يستخرج منها ثلاث أوقيات من اللحم! وإذا أراد أن يصف، في إحدى قصصه، رجلاً مبتهجاً، كان يقول: أصبح وجهه كوجه طفل تَرَوَّق بسندويشة لحم، قصابُها في قلبه مخافةُ الله..
خلاصة القول، أخي أبو أحمد، لعل زوربا أكثرنا صواباً في النظر إلى المرأة، إذ كان يرى في كل واحدة منهن جمالاً خاصاً.
(وللحديث صلة)