انقلاب بوليفيا وفلسطين والإمبراطورية المحتضرة
على مشارفِ نهاية سنة 2023 التي شهدت بداية حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة، أقدمَ الرئيس البوليفي لويس آرسي على قطعِ العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية بوليفيا متعدّدة القوميات ودولة الاحتلال الصهيوني عقب قطيعة دامت مدّة عشر سنوات، وذلك على خلفية عدوان الرصاص المصبوب على غزّة سنة 2008. ويمكننا أن نجزم هنا أنّ دولة بوليفيا لطالما كانت مُناصرة للشعب الفلسطيني، خاصة بعد تخلّصها من الأنظمةِ العسكرية التي دعمتها الولايات المتحدة الأميركية خلال الحرب الباردة ضمن محاولاتها لمحاربةِ الشيوعية.
وكان رئيس بوليفيا الحالي، لويس ألبرتو آرسي كاتاكورا، قد شغل منصب وزير الاقتصاد والمالية العامة من سنة 2006 إلى 2017، وفي عام 2019 في عهد الرئيس إيفو موراليس، الذي بات غريمه وخصمه السياسي بعد أن كانا حليفين سابقا. عرفت البلاد حالة من الاستقرار النسبي بعد الصعودِ السياسي اليساري، الذي توجّه بدوره إلى السوقين الصينية والروسية، الأمر الذي لا بدّ أنّه أثار تحفظات الولايات المتحدة الأميركية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية لطالما كانت معارضة للسياسات الاقتصادية البوليفية، خاصة في عهد الرئيس السابق موراليس، التي وصفتها بالاشتراكية. كما اتهمت الولايات المتحدة الأميركية جمهورية بوليفيا بعدم التعاون بشكلٍ كاف للحدِّ من ظاهرة التجارة بالمخدرات، وانتقدت سياساتها الداخلية في ما يتعلّق بزراعة الكوكا، التي تُعّدّ جزءًا من ثقافة السكان الأصليين. زد إلى ذلك أنّ دولة بوليفيا، مثل العديد من دول جنوب القارة الأميركية، فُرِضتْ عليها عقوبات كثيرة من طرف الولايات المتحدّة الأميركية.
عقود من الانقلابات والضغوط السياسية
لا يسعنا ونحن نشاهدُ فشل محاولة الانقلاب العسكري في الـ26 من حزيران/يونيو 2024، وتصدّي الشعب البوليفي له، سوى أن نستذكر تاريخ الدولة الحافل بمحاولاتِ الانقلاب وانعدام الاستقرار، إضافة إلى الدور المركزي الذي لطالما لعبته المخابرات الأميركية (CIA) في دعمِ الأنظمة العسكرية والتخطيط للانقلاباتِ بهدف إطاحة القادة والسياسيين الذين تتنافى سياساتهم الداخلية والخارجية مع المصالح الأميركية.
فيما يشهد محور المقاومة وحدة في الصفوف، يعيش محور الإمبريالية تفكّكًا مستمرّا
سنة 1964، أطاح الجنرال رينيه بارينتوس الرئيس فيكتور باز إستنسورو بدعمٍ أميركي، بسبب كونه الحليف الأنسب للولايات المتحدة الأميركية ضدّ "الخطر الشيوعي". ثم في أغسطس/ آب من سنة 1971، قاد الجنرال هوغو بانزر انقلابًا عسكريًا بدعمٍ من المخابرات الأميركية لإطاحة الرئيس خوان خوسيه توريس، الذي كان متعاطفًا مع الحركات اليسارية في أميركا اللاتينية. أمّا في يوليو/ تموز 1980، فقد شهدت بوليفيا الانقلاب العسكري الأكثر دموية في تاريخها، والذي أسفر عنه صعود الجنرال لويس غارسيا ميزا المدعوم أميركيًا، رغم إجماع الشعب البوليفي على رفضِ حكمه، وقد تميّزت هذه الفترة بالتحديد بالقمع والعنف ضدّ المعارضين السياسيين، خاصة ذوي التوجّه اليساري منهم.
استمرت الولايات المتحدة الأميركية في تطبيق أصناف شتى من الضغوطات لفرض التبعية الاقتصادية على دولة بوليفيا وغيرها من دول الجنوب العالمي التي رفضت الخضوع للإمبراطورية، مثل فنزويلا وإيران.
غزّة تكسر شوكة الإمبراطورية
عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزّة وتوحّد صفوف المقاومة على اختلافِ توجّهاتها الأيديولوجية والسياسية، وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها تُواجه عزلة الموقف أمام المجتمع الدولي، الذي استنكر على دولةِ الاحتلال ما ترتكبه من جرائم. إذ سارعت الدول في تحديد موقفها من حرب الإبادةِ الوحشية بعد أن كانت لأميركا وحليفتها العسكرية (إسرائيل) مقدورية الهيمنة على الرأي السائد في مجلس الأمن، فبالرغم من أنّ المؤسسات الكولونيالية الغربية لا يمكن أن تحقق العدالة المطلوبة، فإنّ العزلة الدبلوماسية الأميركية في حدّ ذاتها هي مؤشر على أنّ ما يحدث اليوم في غزّة، لا بدّ له أن يطيح منظومةِ القيم الغربية والوضع الراهن الذي يُرجّح مصلحة الإمبراطورية. كما أنّ هذه الحرب قد قضت على مصداقية الولايات المتحدة وسيطاً نزيهاً لحلّ النزاعات المسلحة في العالم، إذ إنّها تلعب دور الطرف المؤجّج للنزاعِ في هذه الإبادةِ، ما يضعها أمام موقف حرج مع حلفائها الأوروبيين، ويعرّضها لضغوطٍ من قبل منظّمات حقوق الإنسان، كما أنّها فقدت السلطة الأخلاقية التي كانت تستخدمها مبرّراً لفرضِ العقوبات على الأنظمة التي تعارض سياستها الإمبريالية.
في حين أنّ محور المقاومة يشهدُ وحدةً في الصفوف، يعيشُ محور الإمبريالية تفكّكًا مستمرًّا ونزاعات داخلية عويصة قد تؤدّي به إلى انقسام أكبر مما يعيشه اليوم. رغم دعم واشنطن اللامشروط لجيش الاحتلال وجرائمه في قطاع غزّة، فإنّ تصريحات كبار حكومة بايدن لا تكاد تخلو من انتقاداتٍ لاذعةٍ لقراراتٍ نتنياهو وسياسته.
عبّر شباب الأمّة العربية عن رفضهم القاطع لسياسة "حوار السيف والعنق" التي تنتهجها الأنظمة العربية المطبّعة مع الكيان الصهيوني
قبل السابع من أكتوبر، كان العالم في غفلةٍ عن جرائم الاحتلال، وعن وجود أسرى فلسطينيين في سجون الكيان الغاصب. ويمكننا أن نقول، وبكلِّ ثقةٍ، إنّ المقاومة قد أحبطت ثمانية عقود من الهاسبارا الصهيونية التي كانت تضع الرأي العام في المجتمعات الأوروبية نصب اهتمامها، وإنّ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، ولأوّل مرّة منذ تأسيسه، يجد نفسه في حالةِ ذعر سببها عجزه عن إسكاتِ الأصوات المعارضة لجرائم إسرائيل والرافضة الروايةَ الصهيونية الكاذبة رغم تجنيده جلّ وسائل الإعلام الجماهيرية للسيطرة على العقل الغربي في حربه الأيديولوجية. زيادة على هذا، فإنّ معركة طوفان الأقصى أعادت القضيّة الفلسطينية إلى واجهةِ الوعي العربي، إذ إنّ تفاعل شباب العالم العربي مع بطولاتِ المقاومة في مختلف ربوع بلادنا هو خير دليل على أنّ المقاومة تثبتُ مشروعيتها في كلِّ حين، ومع كلّ انتصارٍ تسجله باسم القضيّة. وبالرغم من بثّ دولةِ الكيان سمومها في عددٍ من الدول العربية ومحاولتها تثبيط عزيمتنا عبر نشر روايةٍ انهزاميةٍ في مجتمعاتنا، مستعينةً في ذلك بأبواقٍ إعلاميةٍ صهيونيةٍ ناطقة بالعربية، فإنّ شباب الأمّة قد عبّروا عن رفضهم القاطع لسياسة "حوار السيف والعنق" التي تنتهجها الأنظمة العربية المطبّعة، وخرجوا إلى الشوارع والأزقة مطالبين بإسقاطِ التطبيع. بات الوعي الجماعي للشعب العربي أكثر يقظة، بعد أن أدركت الأغلبية الساحقة الطبيعة التوسّعية للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي يشكل خطرًا وجوديًا على الأمّة العربية بأسرها.
إنّ أكثر ما يُغيظ إسرائيل هو تبدّد سيطرتها المزعومة على الرواية الانهزامية التي كان أعوانها يحاولون نشرها بين صفوفِ الناشئة العربية، إذ إنّ المقاومة قد خطّت سطور ملحمة تاريخية وأطاحت كلِّ أكاذيب آلة الهاسبارا، بما في ذلك شيطنتها المقاومة المسلحة. هذه ليست أوّل مرّة يحاول فيها محور الامبريالية نسف مشروعية المقاومة التي يعترف القانون الدولي بأنّها حق مشروع لأيّ شعب قابع تحت وطأةِ احتلالٍ غاصبٍ. وقد رأينا من قبل كيف سعت وسائل الإعلام المُوالية للكيان الصهيوني لشيطنةِ الفصائل الفلسطينية منذ بزوغ فجر المقاومة المسلّحة على اختلاف توجّهاتها الأيديولوجية. كما شهدنا أيضًا كيف أنّ هذه الأبواق الإعلامية المأجورة دعت بصريحِ العبارة إلى نزعِ السلاح من المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، ذلك أنّ المقاومة المسلحة هي التي أخضعت محور الإمبريالية في عدّة مناسبات إلى إرادةِ الشعوب المحتلة.
لا زالتْ محاولات تخدير العقل العربي وإخضاعه لمعايير لا تحترم مطالبه الشعبيّة مستمرّة
يبعدنا عن ذكرى غزو العراق ما يزيد عن عقدين من الزمن، ولا زالتْ محاولات تخدير العقل العربي وإخضاعه لمعايير لا تحترم مطالبه الشعبية مستمرّة، إلا أنّ مستجدات معركة طوفان الأقصى تشير إلى قيام صحوة فكرية عربية، وتظهر لنا قبل غيرنا أنّ شباب وطننا العربي يحملون بين ضلوعهم، وفي أفئدتهم، إيمانًا قويًا بمشروعية المقاومة المسلحة. هذا وإنّ محاولة تصدير قيم النيوليبرالية إلى مجتمعاتنا العربية لتحلّ محلّ قيمة العدالة "الراديكالية" قد باءت بفشلٍ ذريع، فلا المنظمات الحقوقية المتبنية للغةِ المستعمر تمكنت من وأدِ روح المقاومة فينا، ولا عولمة القيم الغربية تمكنت من زرعِ وهم "المقاومة السلمية" في عقولنا.
وبعد أن تُوِّجتْ كلّ محاولات اغتيال الفكرة بالفشل، عادَ محور الإمبريالية إلى أصوله المكارثية لكي يفرض أجندة الاحتلال بالقوّة بعد أن عجز عن فرضها بالقوة الناعمة وأساليب غسل الدماغ، ومختلف أشكال الدعاية السياسية والأيديولوجية. ليست التهديدات بالفصل والطرد التي طاولت كلّ من عبّر عن دعمه الشعب الفلسطيني سوى محاولةٍ بائسةٍ لإعادةِ السيطرة على الرأي العام الغربي وجبر الضرر الذي لحق الهاسبارا الصهيونية في نظر مواطني الدول المموّلة جيشَ الاحتلال. إنّ تصوير الكيان الصهيوني دولةً شقيقةً وشريكاً استراتيجياً لدول الغرب لم يعدْ كافيًا ليقنع دافع الضرائب الأميركي بمشروعية الحروب التي تمولها الدولة على حسابِ مواطنيها، خاصة أنّ الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال في حقِّ المدنيين باتتْ عاجزة عن إخفاءِ فشله العسكري الذريع وكونه مشروعًا فاشلًا لا فائدة من الاستثمار فيه.
إنّ تمسّك الشعب البوليفي برئيسه الشرعي رسالة واضحة جوهرها الرفض القاطع للهيمنة الأميركية
بينما ينفذ صبر واشنطن ويتبدّد معه وهم القضاء على المقاومة، يدخل العالم العربي مرحلة تحوّلية تُطيح كلِّ السفاهات النيوليبرالية التي تهدف إلى تدجين شعوب دول الجنوب، وتهشّم الطموحات الخارجية لفرض سياسة التطويع والإخضاع على شعوبنا الحرة التي تخصّها المقاومة بالخطاب في كلّ فرصة، وذلك خير دليل على أنّ الأمل فينا لم ولن ينقطع.
انقلاب بوليفيا والحرب على غزّة
رغم أنّ الحدثين منفصلان جغرافياً، إلا أنّ كليهما يعكسان تقهقر السياسة الخارجية الأميركية؛ إذ تنكر الولايات المتحدة الأميركية أيّة مسؤولية عن محاولة الانقلاب العسكري أو عن جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزّة، لكنّ تاريخها يدينها بشدّة، بل ويجعل منها المتهم البديهي.
وانطلاقًا من منظور جيوسياسي، فإنّ محاولة الانقلاب في بوليفيا ترجح سيناريوهات مختلفة، أهمها أنّ الإمبراطورية قد باتت في أضعف حالاتها منذ نشأتها، ما يفسّر لجوئها إلى سياسة الانقلابات العسكرية للحفاظِ على نفوذها وسيطرتها العالمية، والتي كانت إحدى أهم أسلحتها السياسية خلال الحرب الباردة. إنّ تمسّك الشعب البوليفي برئيسه الشرعي رسالة واضحة جوهرها الرفض القاطع للهيمنة الأميركية، وهو إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على وعي شعوب دول الجنوب بالخطر الذي تشكّله السياسة الخارجية الأميركية على سيادة أوطانها.