باز... هكذا خذل العرب أشهر منصّة تواصل عربيّة
سيد أمين
أُصيب مستخدمو منصّة "باز" بالصدمة جرّاء إعلانها إغلاق نفسها بحلولِ نهايةِ يوم الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي، وأرجعت السبب في ذلك إلى عدم تمكنها من الاستمرار بعددٍ محدودٍ من المستخدمين مع تلك الخدمات والنفقات المالية الكبيرة التي تعجز عن الوفاء بها، فضلًا عن المجهودات الكبيرة التي قامت بها دون أيّ عائد معنوي أو مادي.
وفي عتبٍ، أضاف بيانُ المنصّة المُقتضب، أنّ أكثرية الجمهور العربي فضّلت الاستمرار في المنصّات الأخرى رغم هجائهم الدائم لمواقفها الأخلاقية والسياسية، لا سيما ما يخصّ منها القضيّة الفلسطينية والحق العربي. وفي شعورٍ بالخذلان، قالت المنصّة، يكفيها شرف المحاولة، وإنّ التاريخ سيسجّل أنّ عربًا حاولوا بناء منصّة تواصلٍ عربيّةٍ، تمتلك كلّ مقومات النجاح، لكنّهم خُذِلوا.
جاء هذا البيان رغم الدفعة القويّة التي شهدتها المنصّة عقب طوفان الأقصى، وما تّرتب عليه من انصرافِ العديد من مستخدمي مواقع التواصل الغربية عنها، لا سيما منصّات مثل "فيسبوك" و"لينكد إن" و"يوتيوب"، بسبب انحيازها السافر لإسرائيل، وعدم احترامها للحقِّ في التعبير، وبحثوا عن منصّات أكثر إنصافًا. وهذا ما جعل العديد من المستخدمين يجدون في منصّة "باز"، المنصة المثلى للتعبير بأريحيةٍ عن وجهاتِ نظرهم في كافة القضايا السياسية الدولية، لكنهم سرعان ما ابتعدوا عنها لأسبابٍ عدّة.
وفي تحليل الأسباب الإخفاق، هناك عدّة أسباب، أوّلها برنامج المكافآت على التفاعل داخل المنصّة، فعلى الرغم من أنّه استطاع جذب أعداد كبيرة من صغار السن والشباب غير الواعي للتفاعل مع المنصّة طمعًا في الحصول على هذه المكافآت، إلا أنّه في نفس الوقت أبعد الشباب الواعي الذي سعت المنصة أصلًا لانضمامه إليها.
السقف السياسي لمنصّة باز كان مرتفعاً أكثر من منصّات التواصل الغربية بكثير، حيث لا تقديس مفتعلاً لأحد، ولا امتهان غير مستحق لغيره
كما ساهم في ابتعادِ الشباب المؤدلج عن المنصّة وشعوره بالاغتراب عنها، غزارة التعليقاتِ التي كان يتركها الشباب الساعي وراء كسب المزيد من النقاطِ من خلال كتابةِ تعليقاتٍ لا تمت بصلةٍ إلى المنشور، وهي غالبًا ما كانت عبارة عن نصوصٍ أو رموزٍ لا قيمة لها، حيث التعليق يتم بكتابة نقطة، أو فاصلة، أو شرطة، أو حرف من حروف الهجاء وهو ما أثّر في قناعة الناشر العربي الجاد بعدم وجود جمهور حقيقي أو جاد يتفاعل معه، فانصرف لمنصّاتٍ أخرى، رغم أنّ هذه المنصّة تحديدًا كانت الأكثر تعبيرًا عن توجّهاته الفكرية.
وحتى أولئك الذين كانوا يسعون وراء برنامج المكافآت انصرفوا عن المنصّة في نهاية المطاف أيضًا، بعدما استطاعوا بسهولةٍ تحقيق أعلى مستوى في بضعةِ أيام، ولم يعد للمنصّة ما تقدّمه لهم لحثّهم على البقاء داخلها.
والمنصة معذورة في ذلك لأنّها لن تستطيع بأيّ حال أن تمنح مكافأت لكلّ من تجاوزوا المستوى المطلوب، وهم أغلب روّادها، لا سيما مع شبه انعدام موارد تمويل المنّصة من الإعلانات. وهناك تجربة سابقة مشابهة تمامًا، كان ينبغي على منشئي "باز" الاطلاع عليها قبل أن يقلدوها، وينتهوا إلى نهايتها نفسها، ونقصد منصّة "تسو" الأميركية.
ورغم أنّ منصّة باز تميّزت بفكرة الغرف الصوتية، إلّا أنّها أخطأت في تقسيم الروّاد إلى جماهير متنوّعة حسب اهتماماتهم، فجعلت الاهتمامات جزءًا أساسيًا من مكوّنات جمهورها، وعزلت كلّ أصحاب اهتمام أو مجتمع في ظهورٍ مشترك، وهو الأمر الذي جعل جمهور المنصّة يعيش في جزرٍ منعزلة، وكان يجب عليها إلغاء تلك المجتمعات إيمانًا بأنّ الإنسان الواحد، عادةً، ما يكون متنوّع الاهتمامات، ما بين السياسي والديني والثقافي والعلمي وغيرها، وإن كان يطغى عليه توجّه ما، ولهذا فإنّ مسألة حشره في زاويةٍ معيّنة ثابتة، ستصيبه بالنفور حتما.
وهناك سبب آخر أيضًا، قاد إلى الإخفاق، وهو أنّ المنصّة مصمّمةٌ للعمل على تطبيقات الهواتف النقالة فقط، ولا تعمل بشكلٍ طبيعي على أجهزة الكمبيوتر وما شابهها، ما شكّل إلزامًا لمن ينشئ حسابًا عليها، بأن يقوم أولًا بتحميل التطبيق على هاتفه، ما جعل البعض يُصاب بالكسل أو التململ إلى الحدِّ الذي يجعله يلغي الفكرة أساسًا، خاصة لو كان يريد فقط تجربة المنصّة والاطلاع على محتواها.
كان يجب على الشبكات الإخبارية العربية الرائدة، وخاصة تلك المدافعة عن الحقّ العربي والإسلامي، إنشاء صفحات لها على منصّة باز
كان ينبغي على منشئي المنصّة أن يقوموا بتصميمِ منصّتهم للعمل على كافة المتصّفحاتِ بما يشبه المنصّات المنافسة، خاصة أنّ ذلك سيمنح روّادها فرصة أقوى للظهور على مواقع البحث، بما يمثله ذلك من نجاحٍ لهم وظهور أقوى، ما يشجّع بالضبط على انضمامِ الكثير من المؤثّرين لها بوصفها سوقًا واعدة وجديدة لإظهار مهاراتهم في كافة المجالات بكلّ حريّةٍ.
ولا عيب في أن تقوم المنصة بدعوةِ أعداد من المؤثرين في الوطن العربي للتدوين على منصّتها مقابل أجر رمزي، بدلًا ممّا أنفقته في برنامج المكافآت الفاشل، والذي أضرّها ولم ينفعها.
لا شك في أنّ تجربة منصّة باز كانت تجربة عربية رائعة نجحت في تجاوز خنادق الطائفية والمذهبية والشعوبية والمناطقية التي حشرتنا نحن العرب فيها، قوى الاستعمار وورثتها المحليين منذ عقود، وانطلقت إلى آفاق أكثر سموًا ووعيًا، متجاوزةً التعصّب الأعمى للحكومات والزعيم الملهم.
كما كان من أهم مميّزات المنصّة أنّ سقفها السياسي كان مرتفعًا أكثر من منصّات التواصل الغربية بكثير، حيث لا تقديس مفتعلا لأحد ولا امتهان غير مستحق لغيره، وتجلّت في منشورات مستخدميها وحدة الشعب العربي بوضوح.
كان يجب على الشبكات الإخبارية العربية الرائدة، وخاصة تلك المدافعة عن الحقّ العربي والإسلامي، إنشاء صفحات لها على المنصّة، ووضع أيقوناتها على صفحاتها لتسهيل إجراء المشاركات، وأيضًا لدعم هذه المنصّة العربية التي حقّقت نجاحًا ملحوظًا واستطاعت أن تضع قدمها على أوّل درجات العالمية.
أظنّ أنّ الفرصة ما زالت سانحة للإنقاذ.