بعد غزّة.. كيف نموّل المجتمع المدني بعيداً عن المانحين؟
الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوأميركي في غزّة، وازدواجية المعايير والأخلاق التي أظهرها العالم، بما في ذلك المنظمات والمانحين الدوليين تجاه هذا العدوان الهمجي، أعادت إلى الواجهة ضرورة إعادة التفكير في طبيعة ونماذج المساعدات الدولية، مع التركيز على المجتمع المدني الذي يقع في قلب المجتمع، ودعم التغيير الوطني بعيدًا عن الأنظمة التي فُقِد الأمل في كثيرٍ منها.
وهذا نقاش ليس بجديد، بل هو جدل دائر منذ سنوات طويلة. فعلى الرغم من الدور المحوري الذي لعبه المانحون الدوليون في دعم مؤسسات المجتمع المدني في الدول الاستبدادية، من خلال تقديم الموارد المالية والمساعدة الفنية التي مكّنت مؤسسات المجتمع المدني لسنوات من تضخيم تأثيرها، والوصول إلى جماهير أوسع، والتنقل في البيئات السياسية الصعبة من خلال توفير شريان الحياة للمبادرات التي قد تواجه معارضة من الأنظمة الاستبدادية، فإنّ هذه المساعدات جاءت بثمن، وأحيانًا ببعض السلبيات.
ولا أهدف هنا لشيطنة الجهات المانحة أو وضعها جميعًا في سلّة واحدة. فبعد سنوات من العمل في هذا المجال أستطيع القول إنّ الكثير من الخير قد نتج عن عمل الكثير من هذه الجهات عبر العقود الماضية، إلا أنّ الاعتماد الكبير على الجهات المانحة الدولية جاء أيضًا مع كثير من العيوب والمشاكل. فبينما كان أبرز هذه السلبيات سابقًا هو خطر التدخل الأجنبي المتصوّر، والذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة التدقيق والتدخلات في أعمال المؤسسات، والتحديات القانونية التي تواجهها، وحتى إغلاق المؤسسات التي قد تعتبرها الأنظمة الاستبدادية تهديدًا لها، فإنّ السنوات الأخيرة أظهرت جانبًا سلبيًا آخر، وهو الازدواجية والعنصرية الهيكلية المدمجة في بنى هذه الجهات المانحة، حكومية كانت أو خاصة.
كما أظهرت المآسي العالمية في السنوات الأخيرة اختلافًا كبيرًا في تعامل هذه الجهات مع القضايا اعتمادًا على المعتدي وخلفية الضحية. فبينما أشبعتنا كثير من هذه الجهات تنظيرًا حول العدالة والمساواة وحقوق الإنسان لسنوات، لم تجد هذه الجهات نفسها أيّ حرج في التحوّل لوضعية "إعمل نفسك ميت" عندما يصبح المجرم محسوبًا على الغرب الأبيض، أو عندما تتوافق مصالحها مع مصالح المستبد.
الاعتماد الكبير على الجهات المانحة الدولية جاء أيضاً مع كثير من العيوب والمشاكل
كل هذا حوّل التمويل، حتى من بعض الجهات الخاصة، لأداة ضغط لا مساعدة من خلال تَقَلُّب مستويات التمويل وشروط الجهات المانحة التي قد لا تتوافق دائمًا مع الأهداف والأطر المرجعية المحلية، وهو ما يشكل تحديات إضافية أمام المستفيدين من هذه المنح، وزاد من صعوبة التخطيط للمبادرات طويلة الأجل واستدامتها بشكل يتوافق مع المتطلبات المحلية، بحيث أصبح تحقيق التوازن بين الاستفادة من فوائد الدعم الدولي وتخفيف المخاطر المرتبطة به أمرا بالغ الأهمية لصمود وفعالية المجتمع المدني في كثيرٍ من البلدان.
فمرحليًا، قد يكون العمل على تحقيق هذا التوازن واستمرار الاستفادة قدر الإمكان من التمويل الأجنبي هو الفعل البراغماتي في الوقت الحالي لعدم توفر البديل في ظلّ التحديات التي يواجهها تمويل المجتمع المدني في الدول الاستبدادية، والتي تشمل ولا تقتصر على السياسات الحكومية التقييدية، ومحدودية مصادر التمويل المحلي، والرقابة والتدخلات غير المبرّرة، والتحديات التشريعية في مجال تمويل المجتمع المدني، ومنافسة أجهزة الدولة المجتمع المدني على التمويل، ومحاولة الأنظمة توجيه تمويل المجتمع المدني، والأعمال الانتقامية تجاه المؤسسات والنشطاء، وشيطنة المؤسسات وقياداتها.
أظهرت المآسي العالمية في السنوات الأخيرة اختلافاً كبيراً في تعامل الجهات المانحة مع القضايا اعتماداً على المعتدي وخلفية الضحية
في ظلّ هذا المشهد المعقد للمجتمع المدني الذي يتحدى الوضع الراهن في الأنظمة الاستبدادية، أصبحت إعادة تقييم وتصميم نماذج التمويل أمرًا ملحًا، من خلال التركيز على التحوّل لنماذج محلية وإقليمية أكثر استدامة واستقلالية، تُحرّر المجتمع المدني من الاتهامات بالتبعية للنفوذ والأجندات الأجنبية، وتَقَلُب التمويل الأجنبي، والتحديات التي تواجه استقلال البرامج والمبادرات.
تحوّل يعتمد على نهج مستدام وموجّه محليًا، يستفيد من تشجيع وتطوير الجهات المانحة الخاصة المحلية (Local Philanthropies)، وتطوير البرامج والأنشطة المدرة للدخل، وتعزيز الشراكات المحلية، وتعزيز الاعتماد على التمويل الجماعي، واشتراكات العضوية، وتطوير آليات جمع التبرعات المحلية، والمدافعة لتعديل التشريعات ذات العلاقة لتسهيل عمليات جمع التبرعات، مع التركيز على تعزيز الشفافية المالية للمؤسّسات وتخفيض الكلف التشغيلية، وخصوصًا مخصّصات الإدارة لتعزيز ثقة المتبرّع، بالتوازي مع حملات التوعية لتعزيز ثقافة التبرّع والتطوّع في المجتمعات المحلية خارج نطاق التبرعات الخيرية فقط.
في سياق اجتياز هذا المشهد المليء بالتحديات يُعدّ التحوّل من الاعتماد الكبير على الجهات المانحة الدولية نحو نهج متنوّع وموجّه محليًا أمرًا بالغ الأهمية، ومع أنّ هذا التحوّل الاستراتيجي قد يحتاج لسنواتٍ وكثير من العمل الدؤوب والتضحية ببعض المكاسب الآنية السهلة، إلا أنّه سيضمن على المدى الطويل تعزيز مرونة المجتمع المدني وقدرته على الصمود في وجه التقلبات الجيوسياسية الدولية، ويخفّف من المخاطر المرتبطة بالتمويل الأجنبي، ويساهم أيضًا في استدامة وتأثير مبادرات المجتمع المدني على المدى الطويل.