بعد فوات الأوان
قلت لصاحبي: "ما تيجي نقاطع خطبة الجمعة طالما بنيجي نشتم الخطيب كلّ مرّة ونروّح"، فقال لي: "حرام يا عم".
لا أصلّي جمعتين في ذات المسجد، وربّما في ذات الحيّ ولا المدينة، ولم أخرج من صلاتها إلا غاضبًا وقرفانًا (وشاتمًا في غالب الأحيان)، ممّا قيل فيها، من هذا الانفصال الممنهج عن واقع الناس وحياتهم، لا الناس الذين تتكوّن منهم جمهرة المستمعين وما يعانونه في مأكلهم ومشربهم وعلاجهم وحياتهم كلّها، ولا الناس في هذا العالم والإبادة التي تسحقهم وتسحق كرامتنا بجوارهم.
انفصال أعادني في المقابل إلى تاريخٍ طويلٍ من الفقهاء والعلماء الذين نُكِّل بهم وعُذّبوا وقتلوا، فقط لأنّهم لم يرضخوا لمراد الحاكم منهم (سلطانًا أو ملكًا أو خليفة) في ما يخصّ شرع الخالق أو حقوق المخلوقين، وحثيث مساوماتهم حول الموقف والجمهور ومكانة الحاكم واستقرار السلطة.
"الملك عقيمٌ" لا في قطع أرحام أهله بالأخلاق والقيم والإنسان فحسب، إنّما بقطع كلّ صلةٍ بالعقل والمنطق ثمّ بالوجود ذاته
أعادني إلى ما جرى مع أبو ذرّ الغفاري، وعليّ ابن أبي طالب، وفاطمة، وابن الزبير، واغتيال عثمان وعمر أنفسهم، وألقتني لتاريخٍ ممتدّ لم يتوقّف فيه الدم لقرون، فقط لأنّ مختلًّا/مجرمًا أراد انتزاع السلطة ثم الحفاظ عليها، ومجتمعًا يقرّ سمعًا وطاعةً لما أراده الله منه (أو ما أُوهم أنه مراد الله منه)، وتعطّلت بهذا سبل الحياة جميعها، فأصبح تاريخ أمّةٍ هو تاريخ صراعها على الكرسيّ وشرعنة الصراع على قياس "الشرع" حقيقةً أو تلفيقًا.
الذين بدأوا العشريّة الدمويّة في بلادنا، كأيّ سمسار من أولئك الذين يخربون الحياة على الهواتف بعرض الفيلا الساحليّة بدءًا من 100 مليون جنيه، خطب خطباؤهم على المنابر ترويجًا للاستثمار بقناة السويس الجديدة والعاصمة الإداريّة العجيبة وقصور الحكم المهيبة وأطول برج في أوسع مكان به أضخم مسبح وأعمق مياه وأسود أيّام.
وكان لكلّ وحلٍ جديدٍ يحفره أهل الحكم (وما هم بأهلٍ له) فتواهُ ودلائل شرعيّته أو وجوبه، كما دلائل تكفير مخالفيه ومعارضيه، وفي كلٍّ كان الوحل الحقيقيّ هو انفصال الناس (الجمهور المستهدف الذي وجب أن يكون فاعلاً) عن حياتهم ومصالحهم.
كان وزيرهم الذي علّمهم السّحر، ذلك الذي بكى أمام بوابة مجلس الوزراء حين بلغه أنّهم جاؤوا بغيره وتوسّل لهم ليبقى، يُفتي بالقتل والصلب وتقطيع الأرجل والأيدي للمعارضين وكلّ خارجٍ عن القطيع، على الهواء مباشرةً، في الوقت ذاته الذي يدّعون فيه محاربة التكفير والإرهاب ويصمونهم بتشويه الدين الحنيف والإساءة إليه.
كان مُستخدمًا في هذه وهو مُستخدمٌ في تلك، لا دين في الحكاية ولا دنيا، فقط تعليمات الجهاز الجاهل الذي يُشغّله، والمصلحة الدنيئة التي تحرّكه.
"من نزل بقريةٍ فشا فيها الربا، فخَطَب عن الزنا، فقد خان الله ورسوله" (العز بن عبد السلام)، فما بالك بمن يروّجُ لما تفشّى ويُشرعِنه باسم المنهج الذي حرّمه، فيبشّر بالمظالم ويدعو المظلوم ليخرس أو يُلقى في جهنّم، فيخسر الدنيا والآخرة، تلك في المعتقل وهذه في العذاب الأليم.
لا دين في الحكاية ولا دنيا، فقط تعليمات الجهاز الجاهل الذي يُشغّله، والمصلحة الدنيئة التي تحرّكه
وما الذي يتوقّعونه إثر كلّ هذا التغييب والفصل بين الناس وواقعها (اللازم والمتجاوَز)؟ ما الذي يتوقّعونه من مجتمعٍ تراكمت فيه التغييبات إلى هذا الحدّ، إذا اضطرّ إلى مواجهةِ عدوٍّ مثلاً؟ في مواجهة كارثة؟ في مواجهة فساد نفسه وجنوحها لغير السويّ؟ في أيّ مواجهة أو اختبار، ما الذي يُنتظر من هؤلاء؟
"الملك عقيمٌ" لا في قطع أرحام أهله بالأخلاق والقيم والإنسان فحسب، إنّما بقطع كلّ صلةٍ بالعقل والمنطق ثمّ بالوجود ذاته، إذ ينسون في كلّ تجربةٍ أنّ "أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة، وما سلّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان"، وفق قول الشهرستاني.
وتاريخ الدمّ الذي أريق لأجل هذا الصراع مرعب، ولم يتوقّف عن استخدام "الشرع/الدين/الفقه" سلاحًا مؤسّسًا يقسّمُ به الصراع، وتحزّب على أساسه الأحزاب وتشرعَنُ به كلّ الجرائم، وتنقلب به التموضعات فيصبح إمام الأمس مارق اليوم، ومارق الأمس إمام اليوم. ومع ذلك لا يتوقّفون عن استخدامه، فقرًا وكسلاً ذهنيًّا، من دون التفكير في تبعاته عليهم كما على بقية الخلق والبلاد، وغرورًا متوهّمًا بأنّهم يسيطرون على الأدوات وآثارها، لكنّهم في كلّ مرّة يُبغتون بأنّ الوحش الذي أخرجوه التهمهم بعد أن انتهى من خصومهم.
لكن كالعادة، بعد فوات الأوان.