بعد فوز أردوغان... مئوية تركية جديدة
بعد أول انتخابات شديدة الصعوبة في تركيا، وفي الجولة الثانية وبفارق مليوني صوت تقريباً، استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفوز بفترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات قادمة، ربما تكون الأهم في سيرة الرجل، وفي مسيرة حزبه أيضاً.
الفترة المقبلة هي فترة حصاد سنوات طويلة من العمل، ومن التحديات، ومن الخيبات والكوارث، أراد أردوغان أن يستمر بها، ليُكمل ما بدأه عندما لم تسعفه الأعوام الماضية بسبب الصعوبات التي برزت في الأعوام الأخيرة على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، والتي كلّفته مواجهتها الكثير من شعبيته وحضوره ووضعت عوائق كبيرة في وجه مشروعه.
ليس من السهل أن تخطّط لتنمية بلاد كبيرة مثل تركيا، ثم تندلع حرب جنونية على حدودك الجنوبية في منتصف المسيرة، وتسيطر على تلك المناطق تنظيمات إرهابية عالمية وانفصالية فيما بعد، ثم تواجه أزمة اقتصادية عالمية قبلها بسنوات بسيطة، وتلوح واحدة أخرى في الأفق قبل أن تبدأ رحلتك الأخيرة في الحكم، التضخم الاقتصادي العالمي والأزمة الصحية (كورونا) وتبعاتها الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وحرب أخرى شبه عالمية على الحدود الشمالية بين حليفين يجب أن تدير حسن العلاقة بينهما، بينما يتقاتلان (روسيا وأوكرانيا ومعها أوروبا كلها والولايات المتحدة)، وعالم غربي يريد إطاحتك ومنظومتك الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ويسعى جاهداً لتصدير كلّ الأزمات الممكنة لبلادك، ومحاولة انقلاب كبيرة تخلّف وراءها شقاق اجتماعي وسياسي ليس من السهل ردمه، والكثير الكثير من الأزمات التي صارت صفة مميزة لهذه المنطقة التي لا تعرف الاستقرار، والتي اختار أردوغان أن يتوجّه إليها كعمق حيوي واستراتيجي له عندما لم يقبل الغرب مراراً أن تكون تركيا جزءاً من وحدته.
ستعمل القوى المعادية لأردوغان وتركيا جاهدة كي تجهض مشروعه في المنطقة
النجاة من كلّ هذا أعجوبة تستحق الوقوف عندها طويلاً، وتستحق أن يوصف الرجل ومن حوله من السياسيين والإداريين والاقتصاديين والعسكريين بأكثر أوصاف النجاح إبهاراً، إنّ ما فعلته تركيا بقيادة أردوغان هو خروج من عنق زجاجة ملتوية لبناء مشروع يبشر بعالم فسيح يتسع للجميع، والخيارات فيه كما يردّد أردوغان مراراً هي أكبر من خمسة.
لن تبدأ تركيا وحدها مئوية جديدة بقيادة أردوغان، بل إن المنطقة والعالم مرغمان اليوم على هذه البداية، فالسنوات المقبلة هي سنوات وضع الأساسات الصلبة والدائمة لمشروع العدالة والتنمية في تركيا، وفي موقع تركيا من العالم.
تبرز تركيا اليوم كقوة عالمية متجاوزة مجالها الإقليمي، تتقاطع عندها طرق التجارة والطاقة والسياسية والأزمات أيضاً، تمتلك مفاتيح للعديد من الملفات التي ستُواجهها بشكل أكثر حزماً في السنوات الخمس المقبلة لترسخ الإرادة التركية فيها، وهذا سيمتد من إدارة الحرب السورية والتوازنات في المنطقة، إلى إعادة صياغة مجلس الأمن بحيث يكون أكبر من خمسة.
وبينهما سيركّز الرجل على دمج أكبر لمكونات الأمّة التركية (الدول الناطقة بالتركية)، وسيعزّز مواقعه في مراكز الطاقة والثروات العالمية التقليدية والمتجدّدة عبر شراكات كبيرة مع دول الخليج ودول شرق أوروبا وعلاقات أكثر صلابة مع روسيا، وسيزيد من استثماراته في أراضي اليد العاملة البديلة في أفريقيا من بوابتي مصر وليبيا، وسيكون اليد القوية في الناتو عندما يمسك عصا طرفي النزاع من المنتصف، ويقدّم نفسه عراباً للعلاقة بين روسيا والناتو ومسمار أمان يمنع أيّ انفجار عالمي محتمل. كما سيكون الرجل موجوداً بزخم على طريق الحرير الجديد الذي تحاول الصين رسمه بأبعاد اقتصادية جديدة تقلّل من الاعتماد على الغرب في التجارة العالمية، مستفيداً من وقوع تركيا عند عقدة مواصلات مهمة على هذا الطريق.
تحديات الهوية والتاريخ ستكون حاضرة في السنوات المقبلة، واستعادة تركيا لتاريخها أصبحت أقرب من أي وقت مضى
لقد نجت تركيا اليوم من عسف التجربة التي كانت الدعاية المضادة تحاول تسويقها للشباب قبل الانتخابات، أي أن تجرّب قيادة جديدة للبلاد بلا أيّ مقوّمات ولا أيّ رؤية، ولا أيّ تجربة، ولا أي قدرة على إدارة واحدة من هذه الملفات الشائكة، بل إنّ تاريخها القريب يقول بوضوح إنّ هذه المعارضة بارعة في صناعة الفشل، ولا تجيد إلا تقديم "الحريات" على الطريقة الغربية.
إنّ تاريخ هذه المعارضة القريب ينبئ بوضوح بعدم قدرتها على إدارة التوافق فوق طاولة من ستة مقاعد، فكيف بإمكانها أن تدير بلاداً على طاولتها آلاف الملفات المتشابكة والمليئة بالألغام والمحاذير والاختلافات، ولا ترسو على قاعدة صلبة، معارضة كهذه كانت جديرة بالفشل وقد حصلت عليه باستحقاق.
لن تكون السنوات المقبلة سهلة، فأعداء تركيا يعرفون أنه لو نجح أردوغان في هذه السنوات الخمس فستكون المئوية مفتوحة أمام مشروعه والمشاريع المشابهة في المنطقة، ما يعني ربما انتقال مراكز القوة تدريجياً من الغرب إلى الشرق، لذلك ستعمل القوى المعادية لأردوغان وتركيا جاهدة كي تجهض هذا المشروع في المنطقة، ولكن حسبنا أنهم فشلوا في الخطوة الأهم رغم حشدهم الكبير لها، وهي منع التحالف الحاكم في تركيا من الاستمرار في السلطة، وكما استطاعت تركيا تجاوز كلّ المطبّات السابقة ستستطيع تجاوز باقي المطبات للوصول إلى الأهداف الكبيرة التي رسمتها لنفسها وللعالم من حولها، فتركيا فازت اليوم بالخطوة الأهم أيضاً، وصارت الطريق أكثر يسراً بعدها.
إعادة تعريف الأتراك لأنفسهم كشعب ينتمي لأكثر من ألف عام من الحضارة هو ما يجب أن يعرفه الشباب التركي ويتعلّق به
تحديات الهوية والتاريخ ستكون حاضرة في السنوات القادمة، واستعادة تركيا لتاريخها أصبحت أقرب من أي وقت مضى، وإعادة تعريف الأتراك لأنفسهم كشعب ينتمي لأكثر من ألف عام من الحضارة هو ما يجب أن يعرفه الشباب التركي ويتعلّق به، وهي المهمة الصعبة وشديدة الأهمية التي يجب أن يعمل عليها حزب العدالة والتنمية، فالأتراك ليسوا حدثاً طارئاً على التاريخ عمره 100 عام، وأتاتورك ليس أباً للأتراك، وإنما تتعلّق إسهاماته المهمة في رسم خريطة الحدود التركية لا في اختراع الشعب التركي، والمئوية الثانية هي مئوية الحضارة والقوة لا مئوية الجغرافيا والحدود، والاستقلال الذي تنشده تركيا يكمن بحضورها كقوة عالمية على مائدتها الخاصة، لا كتابع ذليل يجلس على موائد الغرب وينتظر عطاياه كما أرادت له المعارضة أن يكون.
في النهاية، نحن كسوريين لا نستطيع إلا أن نكون ممتنين للشعب التركي الذي اختار مواجهة العنصرية وتغليب جوانب الإخاء وعدم الانجرار وراء خطاب الكراهية رغم الأزمات التي يمرّ بها، ورغم كون طرد السوريين هو جزء من الدعاية الانتخابية، وتأكيد التحالف الحاكم أنّ هذه الدعاية لا تمثله، اختار الأتراك بمعظمهم أن تستمر جوانب الحكمة في التعامل مع اللاجئين، وأن يعودوا لبلادهم بعد توفير الشروط الإنسانية اللازمة.
لا يجب أن نهمل أننا أمام فرصة جديدة لخمس سنوات مقبلة، علينا فيها أن نجد خلالها حلّاً لقضيتنا، يضمن لنا العودة بكرامة، علينا أن نستمر بالكفاح والنضال من أجل بلادنا، لنبدأ المئوية الخاصة بنا، والتي نريدها أيضاً أن تضعنا في مصاف الدولة المتقدمة. لم لا؟ نحن أيضاً لم نستسلم خلال الفترة السابقة، وهذه أيضاً خطوة مهمة يجب ألا نضيّعها أبداً.