بيتي مثل مقهى الملاخانة
أبدى الأصدقاء في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" إعجاباً خاصاً بحكايات "أبو سمرة"، وكان بينهم إجماع على أن الرجل ليس كذوباً، لأنه لا يكذب لأجل تحقيق مصلحة شخصية، أو لكي يبتز الآخرين، وإنما يخترع أحداثاً يحاول من خلالها إيهام الآخرين بأنها واقعية، هدفُه من ذلك إنشاء المرح، والفكاهة، والضحك.. والضحك، كما تعلمون، عملة نادرة في عالم الناس الطفرانين من أمثاله.
حكيت للأصدقاء، في هذه السهرة، عن لقاء مصارحة جرى بيني وبين أبو سمرة قبل حوالي ثلاثين عاماً. قلت: أبو سمرة مو كذاب، لكن منحسن نعتبر القسم الأكبر من حياته عبثي.
في سنة 1982، قدم طلب لمديرية المواصلات السلكية واللاسلكية منشان يمددوا له تلفون ع البيت، وبعد عشر سنين انتظار، كان خلالها يتذمر من بطء الخدمات اللي بتقدمها مؤسسات الدولة للمواطنين، وتحديداً في سنة 1992، أجته رسالة من المديرية بتنص على أنه صار بإمكانه ياخد خط تلفون، وكان هوي متحمس كتير، لذلك راح استلف مصاري من صديقه أبو عاصم، وراح دغري على مديرية المواصلات، جهز الأوراق الخاصة بالمعاملة، ودفع الرسوم، وأجوا عناصر الورشة ع البيت، ركبوا له تلفون. نحن أصدقاء أبو سمرة عرفنا، بعد حوالي شهرين، أنه صار عنده تلفون، وأخدنا الرقم من ابن أخته فيصل، وصرنا نتصل فيه، والهاتف يرن، لكن ما حدا يرد! أنا التقيت فيه بالصدفة عند دكان "رستم الصرماي"، فركضت لعنده، سلمت عليه مباوسة، وتأبطت ذراعه، ورحنا على قهوة حمشدو في بازار إدلب، طلبنا أركيلتين وكاسين شاي خمير وقعدنا نحكي. أول شي سألته عن سبب عدم رده على اتصالاتنا، فقال لي إن التلفون بالنسبة للآخرين نعمة، وبيحل لهم مية مشكلة في اليوم، أما بالنسبة إله فالتلفون نقمة، بيعود عليه بالضرر فقط..
حاولت أتبارد على أبو سمرة، قلت له: أنا شايف إنك غلطت بهالتصرف. أول شي اللي كانوا عم يجوا لعندك بيحبوك، ولولا هيك ما بيجوا لعندك
وقال: أنا متلما بتعرف يا أبو المراديس رجل مقطوع من شجرة، وعايش لحالي، ولما ركبت التلفون فرحت كتير، وتخيَّلت إنه راح يرن تلفوني بين حين وآخر، وأنا أرفع السماعة يجيني صوت خالي أبو أمجد، مثلاً، عم يقول لي (وصار أبو سمرة يقلد خاله أبو أمجد اللي بيحكي ببطء وبغنة): مرت خالك أم أمجد اليوم عاملة طنجرة محشي بيلعب عليها الخيال، وحاطين تحت المحشي عصاعيص خاروف، إذا أنت في البيت انتبه ع الباب، لأن راح يجي إبني الزغير يجيب لك صحن محشي، مع عصعوص، مع مرقة، مع بصل أخضر وفليلفة..
وإنه تاني يوم راح يتصل صديقي أبو سليمان، ولما أرد عليه يقول لي: الحمد لله أني لقيتك في البيت، من شوي فرمنا السلطة، وجهزنا الخبز المسقسق مع البيواظ، وضمينا السياخ بلحم الخاروف العواس الأصلي، وشَغَّلنا الشواية، يا الله، ع السريع، تعال لعندي، منشان تلحق تاكل لك سيخين لحمة مشوية، وبعد الغدا منشرب شاي ع الفحم..
وواحد بيتصل بده يبعت لي حلويات، مثلاً، وواحد باعت لي صحن تين خضريوي، والتالت جايبلي مغلف في جواته خمسمية ليرة سورية، على أساس أن نحن أهل وأصدقاء واللي معه زيادة بيعطي للمفلس..
قلت له: أكيد هادا الشي كله ما حصل. بس أنا ما فهمت، أشو هوي الضرر اللي أجاك من ورا التلفون؟
قال لي: متلما بتعرف -يا أبو المراديس- أنا رجل محبوب، وفي إجماع بين الناس اللي بيعرفوني على أن الجلوس معي بيسلي، والحكايات تبعي بتضحِّك.. كانت عمتي سمية تقول (أبو سمرة ما بيخلّي عَ القلب هَمّ). في السابق، قبلما أركب تلفون، كانوا أقربائي وأصدقائي اللي بيحبوا يزوروني ياكلوا هَمّ المشي بالشوب أو البرد من دارهم لداري، فإذا ما وجدوني بينصابوا بخيبة أمل، وممكن يصير معهم متلما صار مع أبو يعقوب، يعني بعدما واحدهم ينفض مشوار طويل، ويتعب، ويعرق، بيدق الباب وأنا بوصي أمي تقول (أبو سمرة مو هون)!.. لكن مع وجود التلفون انحلت مشكلتهم، واحدهم بيتصل: ألو، أبو سمرة أنت موجود في الدار؟ طبعاً بدي أقول للمتصل إني موجود. بيقلي: أي كويس كتير، خليك في الدار أنا جاية لعندك.
الله وكيلك، يا أبو المراديس، داري الدرويشة المتواضعة خلال الشهرين اللي ركبت فيهم تلفون صارت متل مقهى الملاخانة بحلب، بيطلع زبون بيدخل مكانه ست زباين، وهادا بدو مني أحكي لي قصة "سليم بيك من العدلية" والتاني بده يسمع قصة "أبو فَصُّولة لما راح يتفرج ع الجَمَلة"..
قاطعته، وسألته: مين أبو فصولة؟ وأشو هاي الجَمَلة؟
أبو سمرة: أبو فصولة واحد من حارتنا، شخصية طريفة كتير.. مو دارس ولا متعلم، ومع ذلك بيتدخل بكل شاردة وواردة، وعنده قناعة أنه بيعرف كل شي من الدنيا ومشاكلها، وعنده نسبة منيحة من الهَبَل.. في يوم من الأيام أجا على حارتنا واحد غريب معه "ناقة"، ربطها بعمود الهاتف، وصاروا الولاد اللي في الحارة يتجمعوا حواليه، ويسألوه عنها، من وين جابها؟ ومن وين اشتراها؟ ووين كانت عايشة قبلما يجيبها لهون؟ المهم أنا ما كنت بعرف شي عن هالموضوع، تلاقيت بأبو فصولة، وللأمانة هوي بيحبني كتير، سحبني من إيدي وصار يركض، وأنا أقول له: إشبك أبو فيصل؟ لوين آخدني؟ فجاوبني: تعال معي، بدي أفرجيك ع الجَمَلة. (بيقصد الناقة. سماها جَمَلة باعتبارها عقيلتُه للجَمَل!). المهم بقى سيدي، لما شفت قديش التلفون مزعج سحبت الفيش، وجبت كيس نايلون، حطيته فيه، وشلفته لفوق الخزانة (السكرتون) اللي ورتتها عن الوالدة.
حاولت أتبارد على أبو سمرة، قلت له: أنا شايف إنك غلطت بهالتصرف. أول شي اللي كانوا عم يجوا لعندك بيحبوك، ولولا هيك ما بيجوا لعندك. وتاني شي أنت بتتسلى معهم، مو أحسن مانك قاعد في الدار وحدك متل القرد اللي قاتله صاحبُه؟
ضحك وقال لي: أنا كمان بحبهم للشباب. ومتلما قلت حضرتك، منتسلى، وأنا تسليتي عم تكون مضاعَفة، لأن الواحد منهم بعدما يقعد عندي ساعتين أو تلاتة بيمل وبيروح، والتاني نص ساعة وبيروح، والتالت ساعة وبيروح، أما أنا فـ عم إتسلى على مدار اليوم. ومو بس بتسلى بحضورهم، بعدما يروحوا بوقف لي شي ساعتين زمان على المجلى، لحتى أنضف كاسات الشاي وفناجين القهوة اللي تسلوا فيها الشباب. أي روح عني ياه!