بين أيلولين أسودين
لا يبكي الليبيون بشرًا وحجرًا وأنعامًا وزرعًا جرفتها سيول سبتمبر/ أيلول العابرة في درنة وشقيقاتها المكلومات في سفوح جبل "عمر المختار" الأشمّ، كما لم يكونوا يبكون مجرّد حجرٍ سقط من فوق حجر، في "حدائق التفاح الذهبي" على هوامش "هيسبيريديس" الصامدة منذ 525 ق.م، لتتهاوى مسالمة على غير عاداتها تحت معاول جرافات إعادة الإعمار، حين أفلتتها البراميل المتفجرة في حرب ما توقّفت مدافعها، حتى أسلمت للوحوش الصفراء مهمة تجريف ما تبقى من هوية ليبيا الصغيرة (بنغازي)، قبل أشهر من وصول "دانيال" المدمّر بالذات.
لا يبكي الليبيون الأحجار والبشر (كعادتهم) وهم من قدّموا ثلثيهم بحراً وبراً وجواً، لآلات القتل الفاشستية، دون أن يدري أحمد الشريف السنوسي، أنّ نهاية هذا الانتحار الجماعي سيتوّج استقلالًا وعلمًا ونشيدًا بفعل الصدفة والخمر الهاييتي والحظ. هم الليبيون، كعادتهم، حين بلغت قلوبهم الحناجر، عندما هدّدت سنابك خيل ذات الشقيق/ العدو أسوار المدينة القديمة في عاصمتهم الأبدية، طرابلس. ومهما اختلفت الدساتير أو اختفت، فلم تكن إعادة إعمار شارعين خلف مصرف ليبيا المركزي، المترع بالعملات الصعبة أمراً ذا بال، لو كانت الدموع التي ذرفت في 2019 ذرفت على حجر وبشر ودكاكين، وشيء من متاع الدنيا.
فالليبيون القابعون عن بكرة أبيهم هناك في فيلم "أسد الصحراء" (ما صح منه وما لم يصح) أبداً لا يبكون من عَدّوهم شهداء من ضحايا حرب، أو إعصار، أو وباء، أو سجان مخمور. الليبيون الغارقون في النفط والغاز أبداً، لا يبكون العمران والبنى التحتية أو الفوقية، ولا الجسور، ولا السدود المدمّرة، ولو أغرقتهم فرادى وجماعات، بل يبكون بنغازي التي مُسحت وبنغازي التي مُسخت، يبكون درنة التي تُمسح ودرنة التي ستُمسخ، يبكون طرابلس التي لم تنج من مصير شقيقتيها الصغيرتين المباشر، إلا لتجد نفسها وحيدةً تعافر قوى الظلام المؤدلجة بليالي مدينتها القديمة الهزيلة، وما يتكسّر على شاطئ "سيدي الشعاب" من مؤامرات ضد "الكاسكا" و"المالوف" و"البريوش" و"المبكبة" التي تسرق على رؤوس الأشهاد.
يبكي الليبيون حجراً وبشراً وزرعاً وضرعاً، بقدر ما يبكون وطناً، نصفه في ذاكرتهم وشطره يتهاوى أمام أعينهم، وفوق عنقه تتعاقب أقدام المشوّهين والعابرين لحدوده وسدوده إلى دمار عاجل ومسخ آجل
فبنغازي التي يبكيها الليبيون مثلاً، ربما كانت ميدان البلدية، أو سوقي الربيع والحوت، أو شارع عمر المختار، أوميدان الخالصة، أو البرلمان التشريعي البرقاوي، أوربما حوش الكيخيا، أو ربما كانت المسجد العتيق، أو تلك الزوايا الصوفية التي تقف كالعسس في الشوارع المتعرّجة، أو ربّما كانت بنغازي القصر العثماني، أو الكنيسة الكاتدرائية، أو الكنيسة الكاثوليكية، أو المعبد اليهودي، أو سينما برنيتشي مثلاً، أو حتى مبنى السقراسيوني الفاشيستي، أو على الأرجح، ربّما كانت بنغازي شرفة صغيرة محطّمة بقصر المنار التي أطلّ منها يوماً ملك اسمه إدريس الأول والأخير ليعلن استقلال ليبيا وولادتها في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951، أمّا بنغازي التي يعيدون إعمارها الآن، فيمكن أن تكون أيّ شيء آخر، لكنها أبداً لن تكون بنغازي، ليبكيها الليبيون، ولو دُمّرت وعُمّرت بعد ذلك ألف مرّة.
كذلك درنة التي يبكيها نصف الليبيين الآن، ويقع نصفهم الآخر تحت وقع الصدمة حتى ظنّوا وظنّ الناس أنّ ذهولهم صبر وتجلّد. درنة التي ستُبكى إلى آخر الزمان هي محض عشرة هكتارات أو أقل، قذفها الماء للماء في ساعتين ونصف، درنة التي تُبكى وستُبكى، ربّما كانت هي سوق الظلام أو المغار أو الجبيلة أو هي مقبرة الصحابة، أو ربّما كانت شارع إبراهيم الأسطى عمر، أو البياصة الحمرا التي سبقت الجرافات المارقة إليها "دانيال"، فحبسنا دموعنا لسنوات حتى انهمرت الآن بمؤازرة الإعصار الذي لا يجيد تزوير الحقائق، أو ربّما كانت مسجد العتيق، أو جامع الدرقاوية أو سوق الخرازين، أو وكالة الطرابلسي، أو حتى شوارع اليهود الشاهدة على بعض مما مرّ على درنة من ديانات وحضارات حتى سميّت يوماً أندلس.
كلّ ما سبق قد يكون درنة التي يبكي وسيبكي عليها الليبيون، لكنها أبداً لن تكون درنة التي يتحدث الساسة عن إعادة إعمارها، فما سيعمّر الفاسدون في تلك البقعة يمكن أن يكون أّي شيء آخر كذلك، لكنه أبداً لن يكون درنة، ولو أمطرها ألف "دانيال"، وشهدت ألف حرب وحرب وإعمار، فدرنة تحديداً خُلقت لتكون درنة ولا شيء آخر. فالليبيون في درنة وقورينا وبنغازي ولبدة وصبراتة وطرابلس وقرزة وجرمة وغدامس ويفرن وأكاكوس، وحتى واو الناموس البعيدة عن كلّ شيء، أبداً لا يبكون حجراً وبشراً وزرعاً وضرعاً، بقدر ما يبكون وطناً نصفه في ذاكرتهم، وشطره يتهاوى أمام أعينهم، وفوق عنقه تتعاقب أقدام المشوّهين والعابرين لحدوده وسدوده إلى دمار عاجل ومسخ آجل على مقاس مشاريع البقاء، ولو كبّدهم مدافن مترامية الوجع على أنقاض بقايا ذاكرة منهكة حدّ الذهول من سبتمبر/ أيلول أسود في 1969 إلى أيلول لا يقل سواداً في 2023.