بين الاسم واللقب.. "ولا تنابزوا بالألقاب"
"يوجد إنسان في البداية، يواجه ذاته، ينطلق في العالم، ثم يعرّف نفسه بعد ذلك" ( جان بول سارتر).
ثمّة جنوح مرضي نحو اكتساب الألقاب، هذا الهوس بالألقاب وصل إلى حدّ الانتفاخ، والتزلّف، والتملّق، والنفاق، مع أنّ سلطة الاسم وفخامته وحدها تكفي؛ فالاسم يخلق من نفسه جمالية القرب الوجداني، والتآلف الاجتماعي، ويزيل الكلفة، والرسمية، ويهدم البرج العاجي، ويحطّم الحواجز النفسية، كما أنّ الأسماء هي بطاقات هوية للحقيقة!
في مجتمعات العالم الثالث يعتبر اللقب الاجتماعي لقباً تشريفياً، حيث يسبق ماهيته الوجود الشخصي للفرد، وكأنّه في ذلك يحقق نظرية سارتر الوجودية حول الصراع بأسبقية الوجود على الماهية، ويعيق هذا الصراع الوجود الفعلي للفرد.
إنّ سارتر هنا تجاوز اللقب الاجتماعي بصفته جوهراً فعالاً فقط ضمن نطاق تحدّده الماهية، إلى "أنا الملقب" أو الوعي بصفته وجوداً في حدّ ذاته، وممارسة فعلية على الماهية. كأنّ سارتر حين يقرّ بوجود الملقب يقرّ بوجود الوعي، أو هو ممارسة المعرفة، بحيث يصبح هذا الوجود سابقاً على اللقب، أو تصبح ممارسة المعرفة سابقة على ظهور طبيعة المعرفة، فالملقب إذن هو ممارسة سابقة على اللقب وليس العكس.
ولكن من لديه المهمة الأصعب: الأستاذ، الدكتور الذي يحاضر عن أشياء جديّة بعيدة جداً عن الحياة اليومية، أو المتلقي الذي يحاول الاستفادة من هذه الأشياء؟!
يخلق الاسم من نفسه جمالية القرب الوجداني، والتآلف الاجتماعي، ويزيل الكلفة، والرسمية، ويهدم البرج العاجي، ويحطّم الحواجز النفسية
نقطة بداية الملقّب لقباً تشريفياً تتحدّد بما يُسمّى "الموقف الوجودي"، أو شعور بفقدان التوجه والارتباك أو الفزع في وجه عالم غير واضح المعالم. لذلك يتجه العديد من الملقبين إلى التجريد والانعزال عن التجربة الإنسانية المحسوسة، فيستعيضون عنها بلقب يضعهم في المرتبة الأولى من الافتراض الاجتماعي، فيعزّزون به واقعا اجتماعيا غير مرئي في الحقيقة!
إنّ الميزة في هذه الألقاب أنّها توفر قدراً أكبر من إخفاء الهوية الذاتية. ربما يفضّل أصحاب الألقاب مناداتهم باللقب، دون استخدام أسمائهم الحقيقية الكاملة، بالنظر إلى ما قد يحمله ذلك من مخاطرة تعرّضهم للإهانة الاجتماعية بسبب الاسم! حث إنّ اللقب مهما يكن، يعتّم شخصية الإنسان؛ من هو؟ كيف هو؟ ويعمل على تركيز صورة مهنية فضفاضة قد تكون غير ذات مصداقية أحياناً في ظلّ مجتمع رأسمالي هاجسه الوحيد التضخم المهني، فالمهنة هنا هي كلّ هوية الفرد، والتسلّق الوظيفي هو موضة العصر، من هنا جاءت آفة اللقب أو برواز الإنسان الملقب بدكتور، أستاذ، شيخ على حائط فارغ أو مهترئ على أبعد تقدير.
كما يعترض "الملقبون" على القوانين التي يعتبرونها متساهلة في الاندماج مع المجتمع والناس والحياة. يرى العديد من أعضاء حركة التلقيب أنّ مثل هذه القوانين تعيق "البريستيج" ويُطلقون على نظامها اسم "ثقافة الألقاب". وشعارهم "تريد الألقاب أن تكون خاصة"، ولا يعرفون معنى أن يكون الفرد مشاع الملكية الاجتماعية، فهو من المجتمع وله وليس عليه!
اللقب هو مقلب دعائي للمحرومين من التقدير، وسرعان ما ينقلب هذا المزاح إلى جديّة توارب خلفها سطوة نحو السلطة والنفوذ
إنّ أصحاب حركة التلقيب يؤمنون "باللقب للقب"، وهي نظرية اجتماعية عموماً، إذ تجرّد اللقب من أيّ مضامين فكرية أو فلسفية أو دينية (أيديولوجية)، وتنشد "اللقب للقب" فقط، ويطلق أصحاب النظرية على ذلك بأنه تخليص اللقب من النفعية والغائية، فيغدو اللقب "برستيجاً فانتزياً" لا أكثر ولا أقلّ.
ومن الملاحَظ أنّ المسائل المتعلّقة بالألقاب تتداخل مع قضايا اجتماعية على نحو معقد، فربما يضفي لقب مثل دكتور أو بروفسور مستوى جديداً من التبجيل على شخصٍ ما، لكن الممارسة ذاتها بوجه عام، ربما تضرّ بمستوى احترام الأفراد ككلّ، بالنظر إلى أنّ مجمل الألقاب التي تطلق عليهم تضعهم في مراتب أقل من الاستمتاع في الحياة!
كما ترى الموصوم باللقب متجهّم الوجه، مقطّب الحاجبين، إذ يخيّل للمراقب أنّه يسمع أغنية فيروز "يا عاقد الحاجبين" في كلّ وقت وحين، شأن جلسته هذه، شأن جلسته في مأتم، ولكن هذه المرّة على شرف المجتمع الأدنى باعتباره، والناس من حوله يبجّلونه، ويستمتع هو بهذه السادية الاجتماعية، أليس في المجتمع رجل رشيد قادر على أن يعلّم ذلك الموصوم باللقب كيف يكون حرّاً من سلطة الألقاب؟!
إنّ اللقب هو مقلب دعائي للمحرومين من التقدير، وسرعان ما ينقلب هذا المزاح إلى جديّة توارب خلفها سطوة نحو السلطة والنفوذ، وهنا تحديداً تتبدّى سلطة الألقاب، لتنتج نموذجاً من تسلّط النخبة على العامة، إذ تعيش الأولى في برج عاجي مستقى من عاج الفيل، وهو حيوان على أيّ حال! أي في الحقيقة اللقب يهزأ من ذاته بذاته... وينبذ صاحبه إلى غير حدّ!
هكذا يتحوّل الإنسان الملقب إلى منبوذ ونابذ ذاته بذاته، متناسياً أنّ الثقافة والمعرفة للجميع؛ فالمعلومات تريد أن تكون حرة وغير محصورة بلقب معين، مهما كانت رفعته وأناقته الفكرية. ولا تنابزوا بالألقاب، ولا يهزأ قوم من قوم، عسى المهزوء منهم أن يكونوا خيراً من الهازئين.