بين الهزيمةِ والانهزام
يُحكى أنّ مستعمرًا قديمًا (شماليًّا أبيض، كالعادة)، بعد فشل محاولاته لاستعمار بلدٍ جنوبيّ لبسالةِ مقاومته وجلد أهله الذي يردّ كلّ محاولة بخيبةٍ أكبر من أختها، أرسل البصاصين ليتعرّفوا إلى هذا البلد وعاداتِ من فيه؛ فعثر أحدهم من حكاياتِ الناس على أسطورةٍ تقولُ بأنّ "المخلّص" المنتظَر سيأتي من الشرق فوق الماء مرتديًا البياض، هو وجيشه، ليحرّر البلاد ويُسعدَ العباد؛ فلبسَ وجيشه البياض كما تقول الأسطورة، وصنع السفن على مقاسِ مخيّلتها، وفي توقيتها، ثمّ جاءهم من المحيط على ذات الصورة التي تملأ الأذهان، فخرّوا له راكعين، واستقبلوه مبتهجين.. فاحتلّهم دون مقاومةٍ ولا حرب.
كما يُحكى أنّ جيشًا فارسيًّا بأمر قائده قمبيز الثاني، استعدّ لغزو مصر بأن رسم على دروع جنود صفوفه الأولى صور الإلهة باستيت/ القطّة، التي يقدّسها المصريّون وقتها، وكان العقاب القانوني لقتلها في هذا الوقت: القتل. وهو ما أربكَ الجنود المصريّين وجعلهم غير قادرين على مواجهة "قططهم المقدّسة" التي ستكون فألاً سيّئًا مآله الخسارة، وربّما اللعنة؛ فركن كثيرهم للفرار تجنّبًا لقتالٍ يعرّضهم لهذه الخاتمة، فقُتل منهم (بحسب هيرودس) نحو خمسين ألف في مقابل سبعة آلاف فارسيّ، وتبع ذلك احتلال مصر.
في الحكايتين: أدرك العدوّ ثغرةَ الذهن فاخترقها، ولم يفق الساذجون إلا وقد انتهى الأمر.
الاستعداد النفسي للهزيمة يهزمُ، ولو لم تتوافر أسبابها الموضوعيّة، هذا أوّل المنزلق الذي وقع فيه كلّ مهزومٍ في كلّ صراع. ودفعُ هذا الضرر واحدٌ من أهمّ أسباب كون "المقاومة جدوى مستمرّة"، وإن لم تؤتِ ثمرتها فور انتهاء المعركة التي قاومنا فيها.
مؤقّتًا؛ لم يطاولنا شيءٌ من المأساةِ بقدر ما نأينا بأنفسنا عنها، تجنّبنا الثمن فتجنّبَنا الشرف، وخفنا على سلامنا، ففقدنا السلام والكرامة في لحظة الاختبار الأهمّ والأقسى، خوفًا مرضيًّا عند البعض، سبق وزرعته السلطة على مدار عقدٍ فائت، فتجذّر وأصبح محرّكًا ذاتيًّا في دواخلهم، أو شراءً لمصلحةٍ عرضيّة ورخيصة على كلّ قياس، بما في ذلك قياس المصلحة ذاته، سواء بتفاهماتٍ حول مساحات هنا، أو فرص هناك، أو حتى تجنّبًا لعقوبات.
الهزيمة في حقيقتها حالة نفسيّة/ ذهنيّة مداها الاقتناع بعدم جدوى المقاومة، والتوقّف عن المواجهة
وفي كلّ مرّة حاول البعض (وأنا منهم) الدفع باتّجاه تفاعلٍ مباشرٍ وفوريّ، ولو تطهّرًا ولا تطبيعًا مع الحاصل، كان الدفع المقابل يقدّم البناء المتماسك والحراك الواعي الناضج كبديل، وصمًا للتفاعل اللحظي بالتهوّر ومقترحات حراكه بـ"الانتحار"، كأنّهما متضادّان، لا يستوي أحدهما في وجودِ الآخر.
أمّا وقد مرّت شهور الإبادة (وما زالت) دون إدراك شيءٍ من ناضجِ الحراكات وعاقلها (رغم المحاولات المتواضعة، التي أجهضتها الضربات المتتالية)، وربّما دون بناء ما تأجّل فعلُ اللحظة لبنائه أو تعلّلنا نحنُ بذلك هروبًا من القيامِ بالدور في وقته (واجب الوقت)، تمامًا كما فات التعاطي (الطبيعي، الإنساني) مع الفادحات التي عبرتنا (وإن لم نعبرها)، بما يليق فطرةً وانفعالاً بديهيًّا.
وقد سبقَ ولفتُّ الانتباه هنا، وفي غير موضعٍ، لضرورةِ تعطيل "الحسابات" في غير موضعها، لأنّها تنفي عنّا إنسانيّتنا ابتداءً، وترسّخ فينا وفي ذهن السلطة إمكانية حساب كلّ شيء حتى ما لا يحتمل انتظار الحساب، كما لحظتنا الراهنة.
وإذا كانت الخسارة محصّلة الفائت، لزم تداركه والتوقّف عن الخوفِ والانهزام باعتبارهما محرّكين وحيدين لعلاقتنا بالسلطة، وببعضنا البعض، فلا اليأس من القيام بأيّ فعلٍ إيجابيّ واقع (رسائل الأهل في غزّة على وقفاتنا الهزيلات دليل أثرٍ لا يُنكر، ولو لم يكن على قدر الرغبة)، ولا نحن في موضع اتّهامٍ يُلزمنا استنزاف طاقاتنا في الدفاع عن وجودنا (إلا في مواجهة دورنا الذي اخترناه لأنفسنا بعد اجتهاد)، وعلينا تنبيه أنفسنا بشكلٍ دائم إلى أنّ "من الأفضل مهاجمة تفكير العدو بدلاً من شنّ الهجوم على مدنه الحصينة" صن تزو، وإدراك أنّ الهزيمة في حقيقتها حالة نفسيّة/ ذهنيّة مداها الاقتناع بعدم جدوى المقاومة، والتوقّف عن المواجهة... وإذا كانت الحرب أصلاً وسيلة لإقناع الخصم بالهزيمة، يتحقّق هذا الهدف بتمكّن الفكرة منّا وتغلغلها في دواخلنا.