تحولات ثلاثة في تاريخ الديمقراطية التركية
كانت دولة مصطفى كمال أتاتورك – الذي سجل له أنه حافظ على الوجود الديمغرافي والاستقلال السياسي للأتراك في الجغرافيا التي تشكل الجمهورية التركية اليوم – مستبدة شرقية رغم كل التغريب الذي طاول الثقافة واستهدف الدين والحضارة، فقد ظلت الساحة السياسية مغلقة لعقود من الزمن أمام كل نشاط سياسي معارض لأتاتورك وحزبه الواحد حتى لسنوات بعد وفاته، وكادت تركيا من حيث الاستبداد السياسي أن تكون في حال مثل حال أكثر الدول العربية المجاورة، لولا أن هناك ثلاثة تحولات تاريخية نجحت في شد تركيا بشكل تدريجي وبطيء لتصبح حاليا نموذجا ديمقراطيا في منطقة الشرق الأوسط.
التحول الأول تمثل في انضمام تركيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، فالحلف - المكون بعد الحرب العالمية الثانية من عدد من الدول الديمقراطية الغربية – أسهم إلى حد كبير في توفير أوكسجين الحياة للمناضلين من أجل التحول الديمقراطي في تركيا، ورغم كل ما شهدته تركيا من انقلابات وممارسات استبدادية في عدة فترات خلال عضوية تركيا في الحلف، إلا أنه لم يكن مسموحا بظهور نظام شيوعي يساري متطرف في أنقرة، مثل ما حدث في عدة دول في البلقان وأوروبا الشرقية القريبة من تركيا، فظل الاستبداد يمارس من قبل جنرالات الجيش سواء من وراء ستار غالبا أو من خلال تنفيذ انقلابات عسكرية تضطر لاحقا لصنع واجهة ديمقراطية مدنية لها تحت ضغط الانتماء للمجموعة الغربية، فتتمكن أطراف سياسية ديمقراطية ومحافظة من العمل من داخلها واختراقها من جديد.
التحول المؤثر الثالث هو سياسة التوسع التي انتهجها الاتحاد الأوروبي من خلال فتح المجال أمام انضمام دول شيوعية سابقة لتصبح جزءا من المنظومة الأوربية
التحول الثاني المؤثر كان انهيار الاتحاد السوفييتي، فمنذ هذا الزلزال السياسي الكبير الذي أصاب العالم في أواخر القرن العشرين، بدأنا نشهد سقوطا للنموذج الاستبدادي الشيوعي لصالح النموذج الديمقراطي الرأسمالي، وشهدت أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، وانهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال جمهورياته، موجة من التغيير والتحول الديمقراطي.
مما لا شك فيه أن هذه التطورات ألقت بظلالها على تركيا التي تتجاذبها الانقلابات والانتخابات، وبدا أن صعود التيار المحافظ، الذي تزعمه نجم الدين أربكان في تسعينيات القرن العشرين، يعود في جزء كبير منه إلى هذا التحول.
التحول المؤثر الثالث هو سياسة التوسع التي انتهجها الاتحاد الأوروبي من خلال فتح المجال أمام انضمام دول شيوعية سابقة لتصبح جزءا من المنظومة الأوربية، ولقد فرضت أوروبا جملة من المعايير والاشتراطات الحقوقية والديمقراطية على كل الدول التي كانت تسعى لأن تكون جزءا من الاتحاد الأوروبي، وبالفعل، نالت العديد من دول المنظومة الاشتراكية السابقة عضوية الاتحاد الأوروبي بعدما أوفت بهذه المعايير والاشتراطات، ورغم أن تركيا – التي سعت بدورها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي- لأسباب سياسية وثقافية، لم تتمكن من نيل عضوية الاتحاد، إلا أنها انضمت إلى اتفاقات اقتصادية وجمركية مع الاتحاد، وظلت تنتظر دورها في العضوية الكاملة، الأمر الذي جعلها مجبرة على الإيفاء بالمعايير الأوروبية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، في مرحلة شهدت عودة التيار المحافظ للصعود مرة أخرى وبشكل أقوى بقيادة خريج المدرسة الأربكانية - إن جاز التعبير- رجب طيب أردوغان، الذي استفاد من هذا التوجه الأوروبي لتركيا بشكل كبير في معركته السياسية مع الجنرالات والقوى العلمانية.
إن تركيا الحالية التي تقدم نموذجا ديمقراطيا للمنطقة، خاصة مع الانتخابات الأخيرة في 2023م، معرضة لمخاطر الانتكاسة والعودة إلى الوراء بفعل تراجع أهمية القضايا الحقوقية والديمقراطية في أجندات صناع القرار الأميركي والأوروبي، بالتزامن مع صعود ملموس لليمين القومي المتشدد في البلاد، كما نعتقد أن العلاقات التركية الروسية الجيدة بقدر ما لها من ايجابيات اقتصادية وسياسية على تركيا، إلا أنه قد تكون لها نتائج سلبية على الديمقراطية التركية مستقبلا.