تركيا.. لم تعد جنّة الأرض!
لم يكن الصيف في تركيا خلال عام 2023 عاديًا، وذلك من عدّة جوانب ولعدّة أسباب، فالحرارة لم تقتصر على الطقس فقط، بل طاولت كلّ شيء تقريبًا، من السياسة إلى الاقتصاد، مع زيادة في الممارسات العنصرية.
فالانتخابات التركية الأخيرة كانت ساخنة جدًا، وفاز فيها تحالف "الجمهور"، بقيادة حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في البرلمان، كما فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بالرئاسة في الجولة الثانية بفارق ضئيل عن منافسه كمال كليجدار أوغلو. وما زادها سخونة هو تركيز المعارضة على ملف اللاجئين السوريين والملف الاقتصادي. فالرفع المتتالي لأسعار المحروقات، ووصول سعر لتر البنزين إلى 38 ليرة تركية، زادا من لهيب الصيف الذي صاحبه ارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات، وتلاه رفع للضرائب والرسوم الحكومية.
وارتفاع الأسعار هذا، جعل المواطنين الأتراك يعتبون على الرئيس أردوغان وحزبه، وبخاصة أولئك الذين صوّتوا له في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بشقّ الأنفس أمام مرشح المعارضة الذي حذر الأتراك من ارتفاع الأسعار، ووصول سعر كيلو البصل إلى 100 ليرة في حالة استمرار أردوغان في السلطة.
الغريب في الأمر أنّ أردوغان وحكومته بدؤوا بعد الفوز في الانتخابات بتنفيذ خطط وبرامج المعارضة
والغريب في الأمر أنّ أردوغان وحكومته بدؤوا بعد الفوز في الانتخابات بتنفيذ خطط وبرامج المعارضة، حيث تسارعت وتيرة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وحُمّل المواطن التركي المزيد من الأعباء الاقتصادية، والتي جاء التغيّر المناخي ليزيد عليها.
مثلاً، إنّ مدينة بورصة هي مدينة تركية جميلة، مشهورة بطقسها اللطيف في الصيف، ولكن يبدو أنّ آثار التغيّر المناخي طاولت هذه المدينة الجميلة، إذ شهدت موجة حرّ شديدة، ربّما تكون غير مسبوقة، وقد ظهر جليًا انزعاج سكان بورصة وزوّارها من شدّة الحر، وبخاصة في وقت الظهيرة.
وفي نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي، نشرت هيئة الأرصاد التركية تحذيرات للسكان من موجة الحرّ والتعرّض المباشر لأشعة الشمس، وفي يوم الأربعاء 26 يوليو/ تموز وصلت درجة الحرارة إلى 48 درجة عند الظهيرة.
كما شهدت فترة الصيف عودة لمظاهر العنصرية. والسبب في ذلك، يعود إلى أمرين اثنين، الأول هو الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الأتراك، والثاني هو خطاب المعارضة العنصري الذي يحمّل اللاجئين المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ويريدون من خلال الأحداث المفتعلة، والممنهجة، إحراج الرئيس أردوغان، ومنع التقارب مع العرب، والذي تنامى خلال السنوات الأخيرة.
تسارعت وتيرة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وحُمّل المواطن التركي المزيد من الأعباء الاقتصادية
وخلفية الأحداث العنصرية التي تنامت في الفترة الأخيرة وطاولت المواطنين الأتراك أنفسهم مردّها حقد القوميين والعلمانيين الدفين على الإسلام، وعلى جميع المظاهر والشعائر التي تدل عليه، ومن أبرزها الحجاب، وقد أظهرت مقاطع مصوّرة تعرّض المحجبّات التركيات إلى الإهانة والسبّ في وسائل المواصلات.
كما شهدت الولايات التركية المختلفة حملات أمنية موّسعة ضدّ المقيمين غير الشرعيين، وبخاصة في مدينة إسطنبول، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة، تظهر وقوع تجاوزات من جانب الشرطة بحقّ الموقوفين، وهو الأمر الذي استدعى صدور تصريحات رسمية تنفي وجود عنصرية ضد العرب في تركيا، وتؤكد على محاسبة المتجاوزين لحدود السلطة من رجال الشرطة.
وعقب تلك الأحداث استقبل الرئيس التركي وفدًا من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أكدّوا فيه حرصهم على سمعة تركيا، وأن تظلّ ملجأً للمظلومين والمضطهدين في بلدانهم. وفي المقابل، أكدّ الرئيس أردوغان وقوف تركيا إلى جانب الأفارقة والفلسطينيين والبوسنيين والسوريين والروهينغا والتركستان، ومواصلة النضال حتى ينتهي القمع في العالم وتبتسم وجوه الأبرياء وتخفّ دموع الضحايا.
عنصرية متنامية، ضد العرب تحديدًا، وهناك من يستدعي التاريخ ويتهمهم بالخيانة الكبرى للدولة العثمانية!
وأظهرت مقاطع مصوّرة قيام السلطات في الولايات التي تسيطر عليها المعارضة التركية بنزع اللافتات المكتوبة باللغة العربية، وقد حدث ذلك في عدّة ولايات مثل: إزمير ومرسين وأضنه. وذروة العنف ضد العرب في تركيا، تمثلت في مقتل مواطن مغربي يبلغ من العمر 57 عامًا، على يد سائق سيارة أجرة تركي، على إثر خلاف بينهما على الوجهة، ورفض سائق سيارة الأجرة توصيل الضحية، لأنّ العائد المادي من توصيله قليل.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة تظهر حالات اعتداء على السياح العرب والأجانب في تركيا، ودعوات لمقاطعة تركيا سياحيًا وعدم زيارتها، ومقاطع أخرى تدافع عن تركيا، وتقول إنّ ذلك يأتي ضمن حملة منظمة لضرب السياحة التي انتعشت في تركيا هذا العام، فقد أعلنت السلطات التركية أنّ عدد السياح وصل إلى 30 مليون سائح بنهاية شهر يوليو/ تموز الماضي، وأنها تتوّقع وصول عددهم إلى نحو 50 مليون سائح بنهاية هذا العام.
محصلة الأحداث التي شهدتها تركيا في منذ بداية عام 2023 وحتى نهايته، أظهرت، وبجلاء، أنّ تركيا لم تعد جنّة الأرض، بالنسبة للعرب على وجه الخصوص، فهناك عنصرية متنامية ضد العرب تحديدًا، وهناك من يستدعي التاريخ ويتهمهم بالخيانة الكبرى للدولة العثمانية! وعلى الصعيد الرسمي، كان هناك تشدّدًا واضحًا في إصدار وتجديد الإقامات السياحية، وبخاصة في مدينة إسطنبول. وبالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، فقد فقدت الليرة التركية حوالي 46% من قيمتها خلال عام واحد، وارتفعت أسعار السلع والخدمات، وارتفعت الإيجارات بشكل جنوني، زاد عن الضعف في الكثير من الحالات، ورافق ذلك عدم التزام الملّاك بالقيمة التي حدّدها القانون لزيادة الإيجار، وهي 25%. فهل ستتدهور الأوضاع في تركيا وتسير الأمور نحو الأسوأ، أم ستشهد تحسّنًا في العام الجديد، كما يبشّر النظام التركي؟