تسريبات الامتحانات العراقية... شجون وذكريات
حدثت في العراق تسريبات للأسئلة الامتحانية المركزية للصفوف غير المنتهية، فأزال الخبر غبارا من الذاكرة لتظهر بعض المواضيع المتناثرة عن التعليم في العراق واليابان، والتي أود أن أشاركك يا عزيزي القارئ بالفضفضة عنها..
في هذا الوقت، وتزامناً مع هذه التسريبات، بدأت الامتحانات الفصلية في اليابان، يتباين الطلاب في طريقة إجابتهم وبلبسهم وحتى في نوعية الأقلام المستخدمة في الإجابة، ومن المستحيل تمييز الخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية لطالب عن آخر، فالاثنان يستعملان ماركات معروفة، وكلاهما يمتلك مالا جيدا، إما بعمل الأعم الأغلب من الشباب، أو بوفرة المال من الأهل، تكاد الطبقات الاجتماعية تتعاشق مع بعضها ليصعب إيجاد الفارق بين غني وفقير إلا من أدقع فقرة وزاد غناه.
لسنا هنا في معرض الحديث عن المجتمع الياباني، لكن أود التطرق إلى الغش الدراسي والتسريبات الامتحانية التي حصلت في العراق مؤخرا، فالتسريبات الامتحانية الوزارية لها تأثيرات ضارة على مجمل الحياة في العراق وليس المستوى التعليمي فقط، فمثلا وقبيل الامتحانات الجارية الآن، كنت أتحدث مع تاجر وقال لي إنه سارع بإرسال تحويل مالي لشراء بعض البضائع التي يحتاجها في السوق العراقي قبل فترة الامتحانات، وعندما سألته مستغربا عن سبب استعجاله وقلقه من الموضوع -فما علاقة الامتحانات والتسريبات بالتحويلات المالية والتجارة؟-، فأخبرني أن التسريبات في هذه السنوات من الشوائع، وأن الحكومة كثيرا ما حلت هذه المشكلة المصطنعة، لا بالقبض على الجناة أو محاكمة ومعاقبة الوزير أو المسؤولين، بل تحل الموضوع بأن تأمر وزارة الاتصالات بقطع الإنترنت، فتتعطل مصالح الناس، ناهيك عن أنه المتنفس الوحيد للعراق الغارق في العزلة والعسر وانتفاخ جيوب السراق الذي يخنق رقاب العباد.
كانت تسريبات الأسئلة محدودة جدا في حصولها، ومقتصرة على أهل النفوذ في زمن النظام السابق، ومن ينكرها فقد يغيب عنه حقيقة الأمر، كوننا في سلك التعليم كعائلة من الأقدمين، لذلك نعلم الأعاجيب. ومع هذا، كانت تسريبات الأسئلة تمس التعبئة العسكرية لوزارة الدفاع، كونها ستتسبب في نجاح طلاب كثر للالتحاق بالكليات، لذلك كانت مستحيلة الوصول لأيدي عامة الشعب، ومن تصله منهم بصدفة كونية سيسارع لإتلافها خوفا من التخرج القسري من الدنيا هو وأهله!.
لا زال القانون الإداري للترقيات الجامعية في وزارة التعليم العراقية يشجع بطريقة غير مباشرة على هذه الجرائم بحق طلاب الدراسات العليا
التسريبات من الغش
وهنا نتساءل: هل يجب أن نلوم الطالب أم الوزارة، والغش جريمة يرتكبها المستسهلون في سلك التعليم وخصوصا العالي منهم، مرورا بإجبار طلبة الدراسات العليا على كتابة بحوث للأساتذة وجعل اسمهم الأول جزافا، بل وحتى سرقة البحوث من قبل هؤلاء الأساتذة وحذفهم لاسم الطالب المسكين، مرورا بشراء البحوث الجاهزة أو دفع مبالغ مالية ليكون اسم الأستاذ ذو المال في البحث عند اكتماله.. للأخيرة منها قصة أعرفها فقد عرفت مدرّسة في إحدى الكليات الأهلية كثيرا ما صدعت رأسي بأن "من غشنا فليس منا"، وأيضا في استعراضها لمضايقتها للطلبة أثناء أدائهم الامتحان بحجة أنهم قد يحاولون الغش، لكنها تشتري بحوثا بالآلاف من الدولارات بدون علم منها بموضوع البحث أو مشاركة منها في شراء المواد أو بنية منها لدعم البحث ماديا، بل هي عملية شراء مكان لاسمها في البحث المكتمل من البداية، فأين "من غشنا فليس منا" في هذا الفعل الشنيع يا ترى؟..
إن الأمر لا يعدو كونه استسهالا لطرق الغش من التربوي نفسه، فكيف ستكون لدينا القدرة على أن ننهى أبناءنا الطلبة عن الغش ونحن نقوم بهذا الفعل؟ هنا ننافق أنفسنا وأولادنا بأمرهم بعدم الغش، وفي نفس الوقت نتفاخر بما حققناه بـ"التلسيك" و"العلاقات" و"استغلال" حاجة المحتاج.
أما الجانب الأول (وهو إجبار الطلبة ليكونوا عبيدا باحثين ومنصاعين لرغبات الأستاذ وما يشتهي ومن ثم مصادرته لثمن تعبهم وبحوثهم لفائدته الشخصية) فهو موغل في القدم ويمتد في أصله لقوانين وضعت في زمن النظام السابق، حيث إن قانون الخدمة العسكرية يجبر من لم يكمل أي دراسة جامعية أو معهد في العراق على الخدمة العسكرية لثلاث سنوات وتقل هذه المدة لسنة ونصف في حال إكمال الكلية أو معهد عال، المشكلة كانت في إكمال الكلية، حيث إن الأستاذ هو الآمر الناهي، فإن لم يحب الأستاذ مظهر طالب من الذكور فلن يتخرج وسيخسر مقعده الدراسي ويذهب لإكمال الثلاث سنوات كجندي مكلف، بل ان كليات كثيرة كانت تستعمل مبدأ الـ(curve down)، حيث يقوم الأستاذ الذي تتجاوز نسبة النجاح عنده في أي فصل دراسي النصف بضرب معدلات الطلاب بمعادلة لغرض إنزال درجاتهم التي أخذوها، وبذلك يصبح بعضهم راسبين وإن نجحوا في تلك المادة الدراسية، وكثيرا ما "يترقن" قيد الطلبة ويفصلوا من الكلية لرسوبهم بسبب هذه الممارسة، وأيضا سيذهب المسكين الراسب ظلما إلى أداء الخدمة الكاملة (ثلاث سنوات) رغم نجاحه المستحق!
أما طلبة الدراسات العليا فيخدمون 6 أشهر فقط. لذلك كانت عملية إرضاء الأستاذ لأجل القبول ومن ثم النجاح من الواجبات المؤكده، ومن لا ينجح في استرضاء الأستاذ "فياويله".
من المؤكد أن كثيرا من الأساتذة تمتعوا بالإنسانية لكن الـ(curve down) من الواجبات المفروضة من الجهات العليا، وأن السلطة المطلقة مفسدة لنفوس الضعاف منهم، وخصوصا في فترة الحصار وما تلاها.
ولا زال القانون الإداري للترقيات الجامعية في وزارة التعليم العراقية يشجع بطريقة غير مباشرة على هذه الجرائم بحق طلاب الدراسات العليا (وإن ألغي قانون التجنيد الإلزامي بعد عام 2003)، بل وزاد الأمر سوءا بعد اعتماد معامل الجودة العالمي لتقييم البحوث، حيث إن الكثير من "بعض" ضعاف النفوس من الأساتذة يلقون بثقل كبير على الطلبة ويجبرونهم على كتابة وتسليم بحوث لمجلات الـ(Open access)، ظنا منهم أن قبولها سهل، فيضطر طالب الدراسات العليا إلى دفع تكلفة عالية لنشر بحث أو اثنين، ويكون محظوظا إن أنعم عليه أستاذه بوضع اسم هذا الطالب (أو "العبد البحثي" كوصف دقيق لحقيقة معاناته)، كآخر الباحثين، مع أن الأخير عمل البحث ونشره من ألفه إلى يائه.
رجوعا إلى اليابان يصعب الغش خوفا من العقاب أولا، ولكن السبب الأهم هو أن الدراسة أجدى وأسهل من الغش هناك، فالنظام الدراسي مصمم لاستقطاب الأساتذة ذوي العلم والذكاء، وتساعدهم في ذلك الكتلة البشرية التي تزيد عن المائة وعشرين مليون نسمة.
أضف إلى ذلك سيل القوانين التي تحدث بالأشهر لمنع استغلال الطلبة أو الأساتذة، والمراقبة الصارمة من الجامعات قبل الهيئات الحكومية. الطالب هنا قد يحاول الغش وتصادفني بعض هذه الحالات أثناء أدائي واجب التدريس أو الإشراف الامتحاني، لكن نحاول كهيئة تدريسية أن نجعل الغش أكثر تعبا من الدراسة، لذلك قلما أصادف هكذا حالات الآن. أما الكيفية فهي لمن يبحث ويفكر، واستعراض هكذا طرق هنا لا يخدم القارئ العزيز.
في الختام.. كل التوفيق لأحبتنا الطلبة وكل عام دراسي وأنتم بخير.