تسلط أم حمائية: الأبوة لدى الإسلاميين
لا ريبَ في أنَّ الجماعات الإسلامية وتياراتها المختلفة جزءٌ من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، واستطاعت من خلال الخطاب والخدمات وغيرها أن تحافظ على تأثيرها، على الرغم من التغييرات الكبيرة التي طرأت في السنوات العشر الأخيرة، ولكن هذا الوجود وتلك المساحة من التأثير يستبطنان فيها مشاكل ومخاطر، بحسب الموقع والجهة ونمط التفكير ومروحة العمل، ومما عاينته بعد سنوات طويلة من الاحتكاك المباشر مع العديد من تلك التيارات والجهات، أنَّ هناك سمةً مشتركةً بين مختلف هذه الجهات الإسلامية، ما يُطلق عليها "الإسلام السياسي" أو غيرها من تيارات دينيّة أعم، ألا وهي ممارسة سلطة على المنتسب إليهم في تيارهم، تصل في أحيانٍ كثيرة إلى ما يمكن تشبيهها بـ"السلطة الأبوية"، تتدخل في كثيرٍ من قرارات المنضوي واهتماماته، بل وأحيانًا أكثر من ذلك بكثير.
لكن وقبل الخوض في تفاصيل ومظاهر هذه السلطة، لماذا هي سلطة أبوية، وليست سلطة عامة من دون أي تحييد وتقييد، لأنَّ منبع هذه السلطة شعورٌ لدى الإسلاميين – أي الجهة حزبًا كانت أو جمعية أو وقفًا أو تيارًا أو حتى شيخًا- أو القائمين على "رعاية" المنضمين والعاملين، أنَّ عليهم دورًا في "توجيه" سلوكيات الأفراد وخياراتهم المختلفة، فالعضو في "الجماعة" لا يجب أن يكتفي بقراءة المقررات أو بتدارس أحوال الناس ودعوتهم إلى الخير، وبطبيعة الحال إلى جماعته وأفكاره، بل أن يكون هناك تدخل أكبر في سياق "حماية" الأفراد من "أمراضٍ فكرية" يُمكن أن تصيبهم، فتتبلور هذه الصورة "الحمائية"، التي تتحول رويدًا رويدًا إلى سلطة أبوية.
في سياق "الاهتمام" وتوجيه "طموح" الشاب، و"ضبط" أفكاره و"سلوكياته"، ويُراد منها أن تكون – أي قرارات السلطة الإسلامية العُليا- مُطاعة واجبة، وإن كان هناك أي رفضٍ لها من متلقي سيل النصائح والتوجيهات فهو "عقوقٌ دعوي" يستوجب التأديب، ويتصاعد التأديب أحيانًا إلى النبذ والفصل.
وتتجلى هذه السلطة في مجموعة من الأوامر والطلبات، من قبيل افعل ولا تفعل، انظر ولا تنظر، اقرأ لهذا من المفكرين والأدباء والعلماء، ولا تقرأ لكذا من الكتاب والمفكرين، وفي هذا المقال أورد عددًا من الأمثلة بناءً على تجارب ومشاهدات، وروايات توثقت منها ومن أصحابها.
أول مظاهر السلطة الأبوية عند الإسلاميين محاولات التوجيه الفكري، ويكون أحيانًا بأشكالٍ لطيفة، ولكنه يتحول إلى نوع "فج" من التوجيه الثقافي والمعرفي، على غرار التحذير من أصحاب المذهب الفلاني، أو لا تقرؤوا للكاتب العلاني، أو أنَّ الأديب الشهير ضال أو مائع ينشر الرذيلة، أو أنَّ المفكر الغربي المسلم له آراء لا يمكن قبولها، إلى غير ذلك من التوجيهات
أول مظاهر السلطة الأبوية عند الإسلاميين محاولات التوجيه الفكري، ويكون أحيانًا بأشكالٍ لطيفة، ولكنه يتحول إلى نوع "فج" من التوجيه الثقافي والمعرفي
التي تتخذ شكلًا من الأوامر المباشرة، والقيود التي تحيط بالفرد، وبطبيعة الحال كل محجوب محبوب، والتغاضي عن أهمية كل معرفة في زمنٍ لا يمكن للحدود أن تكون منطقية عدا أن تكون مبررة. وإضافةً إلى فكرة "التسلط" ومحاولة التحكم بالمنتسبين، أجد أنه يجرّ على الإسلاميين خسائر لا يمكن تعويضها، من ابتعاد عن أفكار نقدية بالغة الأهمية، ونكوصٍ عن الأدب ومشاربه، وعدم مجاراة ما يميل إليه الشباب في هذه الأيام من حب واهتمام بالرواية والقصص.
أما ثاني هذه المظاهر فيتعلق بدراسة الأفراد، من فئة الشباب خاصة، إذ يسعى جزءٌ من الإسلاميين إلى سد ثغرات أساسية يكونون بحاجة إليها أحيانًا كإطارٍ إنسانيّ يجمع الناس، وأحيانًا في محاولة خدمة تطلعات "التنظيم"، ولكن هذا الأمر يتجاوز شرطين أساسيين، الشرط الأول أن يكون لهذا الكيان (وربما هنا على كل الكيانات وليست الإسلامية فقط) مؤسسة تستوعب الفرد على أثر تخرجه، فبماذا ينتفع الفرد بتخصص لن يجد فيه عملًا بسهولة، بعد أن أفنى فيه سنوات متتالية. أما الشرط الثاني هو أن يكون التوجيه قائمًا على دراية ودراسة، وليس على أمنيات عامة، فما هو النفع أن تجد في تيارٍ ما عشرات الخريجين من أقسام الإعلام والصحافة، ولا تمتلك هذه الجهة منبرًا إعلاميًا واحدًا، ثم يبدأ "النواح" على الطاقات المبددة، و"العويل" على أبنائنا الذين يخدمون مشاريع الآخرين، ولا إصبع يوجه إلى غياب المشروع لدى هؤلاء ابتداءً.
وهنا أود الانتقال إلى ثالث مظاهر هذه السلطة، التي تتعلق بما سبق من التخصصات والدراسة، ولكنها معاكسة تمامًا، إذ يقدم بعض الإسلاميين العطاء المباشر عن التخصص العلمي المتقدم، فيريدون من الشاب الانخراط المباشر في الصفوف، ليملأ فراغًا، أو يستلم قسمًا، ويكون الطموح لديه أن يستكمل دراسته، وإن لم يكن شغوفًا بالعلم، ولكنه قادرٌ عليه، إن توافرت لديه إمكانية المتابعة، فتأتي هاهنا "السلطة الأبوية" لتقرر فرزه على واحدة من لجان العمل، فتضيع فرصة كسب طاقة نخبوية، واستكمال تخصص دقيق سيكون أكثر فائدة وفي موضع أكثر تأثيرًا.
وأختم بالمظهر الرابع من مظاهر هذه السلطة، وهي طامةٌ كبرى، وهي تحويل الأفراد إلى عناصر في فت عضد المجتمع وإثارة الفتن داخله، في سياق نشر رأي فاسد أو إشكالي في المجتمع، وتربي أفرادها بأنَّ هذا الاختيار هو الفرقان بين الجماعة المؤمنة وبين غيرها، وتُبنى هذه المفاصلة مع المجتمع على رأي فقهي، أو توجه عقدي وغير ذلك. وهنا لا أتحدث عن أصحاب هذا الرأي، فبكل تأكيد لهم مآرب سيئة بنشره بين الناس، ولكنهم يستخدمون ملامح هذه السلطة الأبوية ليُظهروا للعاملين في الجماعة أنهم يوجهونهم إلى خير عظيم، ويسهمون في محاججة "أهل الباطل" و"الأهواء".
أخيرًا، لا ريب أنَّنا نمارس جميعًا هذه السلطة الأبوية، بشكلٍ واعٍ أحيانًا، وباللاوعي في أحيانٍ كثيرة، وحاولت في هذه المادة أن أقدم نقدًا بناءً لمكون وشريك في المجتمع، وعلّ هذه الأفكار تشكل إضاءة يسيرة على مجموعة من الظواهر التي تستحق المزيد من الدراسة والمتابعة، علهم يعتنون بها ويتجاوزونها، إذ هناك شعرة ما بين "التوجيه الأبوي" والتسلط "الديكتاتوريّ"، وفي الممارسة العملية، تتحول تلك التوجهات "الحمائية" إلى حالة متدرجة من "التسلط"، فنعيد إنشاء "الطغاة" ولكن بثوبٍ إسلاميّ.