تشكل آسي يا ابن عمي
سيرة الظرفاء (1)
في أول اتصال، بعد العيد، بواتساب (صوت وصورة)، كان وجه أبو سعيد طافحاً بالبشر والمرح، يحاول إيقاف ضحكته ليمرر بعض الكلمات، فلا يستطيع ذلك، وقد استطاع أن ينقل إليَّ عدوى المرح، فقلت له:
- يبدو أن الرز والفاصولياء البيضاء التي أطعمتك منها أختنا أم سعيد، في صباحية العيد، قد حسنت مزاجك.
قال: صحح معلوماتك أبو مرداس، نحن، آل السعيد، مصنفون من جماعة الرز وبامية!
كانت هذه المزحة فاتحة لتبادل أحاديث طويلة وعريضة عن ظرفاء إدلب، وبالأخص أسرة "حمندوش" التي اشتهر معظمُ أفرادها بالظرف وصناعة المقالب، وهؤلاء يروجون لمعلومة، لا أدري كيف صاغوها، ملخصُها أن مَن لا تطبخ له زوجته، في صباحية العيد، "رز وفاصولية"، لا يستطيع أن يزعم بأنه: عَيَّد.
ضحك أبو سعيد، عندما فتحت له هذه السيرة، لأن له تجربة شخصية مع آل حمندوش بهذا الصدد. قلت له:
- أنا سمعت قصتك مع آل حمندوش بشأن الفاصولياء والبامية، ولكنني نسيت معظم تفاصيلها. فهلا ذكرتني بها؟
- حاضر. يا سيدي، من حوالي ربع قرن، تقريباً، خطب شقيقتي الصغرى "فايزة" شابٌّ من عائلة حمندوش، اسمه عادل، وتزوجها، ولأن والدنا متوفى، كنت أنا ولي أمرها. وفي أول عيد صادف بعد زواجهما، تعرضتُ لموقف غريب من نوعه، فقد اتصل بي صهري عادل حمندوش، وقال لي بلهجة غير ودودة:
- المنظومة أختك عملت لي مشكلة مع عائلتي، والأمور الآن (لايصة)، فتعال حلها، وإذا ما انحلت، خذ أختك إلى دارك، وأنا أرسل لها ورقة الطلاق بعد انقضاء العيد!
لم أكن، يومئذ، أعرف طريقة آل حمندوش في المزاح والتنكيت، فغضبت وقلت له:
- طيب يا عادل حمندوش، سآتي وآخذ شقيقتي، فهي ليست مقطوعة من شجرة، وسوف تستغني عن العيش بينكم. وإذا حصل هذا الأمر إياك أن تحاول استردادها مرة أخرى.
وأغلقت السماعة، وخرجت من البيت وأنا في قمة الغيظ، ركبت الموتوسيكل، وذهب بأقصى سرعة ممكنة، إلى دار عادل. وكنت مهيأ، نفسياً، للدخول في جو عدواني، قد نصل فيه إلى مرحلة الشجار بالأيدي، ينتهي بأن آخذ شقيقتي وأعود إلى البيت، استعداداً لطلاقها، ولكن ما حصل، يا أبو مرداس، كان بالغ الغرابة، فعندما وصلت إلى مدخل البناية، سمعت صوت ضحك جماعي ينبعث من منزل عادل، وعندما دخلت، وجدت عدداً من أفراد أسرة حمندوش موجودين، وهم يضحكون ويتبادلون المزاح.
صهري عادل، عندما رآني قال للآخرين: هه. هذا أخوها أبو سعيد، جاء ليحل المشكلة.
قلت له وأنا مندهش: أية مشكلة؟
- المشكلة التي كانت المنظومة أختك سببها. تصور، استيقظنا، مر بي أبي وأشقائي وأبناء عمي، وذهبنا إلى المقبرة، عَيَّدنا الأموات، مثل العادة، وأنا دعوت الشباب لتناول فطور العيد عندي، وكلي ثقة أنها طابخة رز وفاصولية، حسب الأصول، وكم كانت خجلتي كبيرة أمام ضيوفي عندما اتضح لي أنها طابخة رز وبامية!
وانفلتوا بالضحك. ووقتها أدركت أن القصة عبارة عن مقلب محبوك بعناية.
- يا له من مقلب رائع، هل تعلم، يا أبو سعيد، أن الكثيرين في إدلب يتداولون هذه الحكاية؟
- نعم، ولعلمك، بعد هذه الحكاية اكتسبنا نحن، آل السعيد، لقب "جماعة الرز وبامية"!
- طيب. وبالمناسبة، يمكننا، الآن، أن نحكي عن بعض الأفكار المتعلقة بطقوس العيد في إدلب، وأكثرها غرابة، برأيي، إقدامُ الناس على تناول أطعمة دسمة جداً في وقت الصباح الباكر، وأنت تعلم أن نفس الإنسان لا تقبل، في هذا الوقت، أكثر من احتساء فنجان قهوة، مع قطعة بيتيفور.
- والله صحيح.
- وأنا أقول "طعام دسم"، وأعني ما أقول، فالرزّ الذي يطبخونه في العيد يمتلئ سطحه بطبقة سميكة من اللحم المفروم، المقلي مع كمية مبحبحة من الصنوبر واللوز، والعائلات المقتدرة لا تقلي أي شيء بالزيت، أو السمن النباتي، بل بالسمن العربي الدسم جداً، والفاصولياء يجب أن تكون مكتظة بقطع اللحم الكبيرة (الكراديش)، ويجب أن لا ننسى فكرة "الآخرة" التي يجري تداولها في أحاديثهم أثناء التهام كل هذه البلاوي، وهي أن صاحب البيت يمازح أحد الموجودين، عندما يلاحظ أنه يأكل ببسالة منقطعة النظير، فيقول له:
- لا تأكل كثيراً، فهناك (آخرة).
والمقصود، أنه يوجد ملحق للطعام، من الحلوى تحديداً، شعيبيات، أو كنافة أم النارين، أو قطايف، أو قرص ضاهري، ناهيك عن الشوكولاته والكرميلا والراحة التي يأخذها الضيف، ويضعها في جيبه، ليأكلها على مهله، في وقت لاحق.
- هل تعلم؟ أنا أدخن كثيراً، ونفسي تصد في الصباح عن الطعام، ولذلك ألغيت وجبة الفطور منذ سنوات شبابي الأولى، ومع ذلك، في صباحة العيد، آكل مع الضيوف والزوار، وبشراهة. وهذا أمر أنا نفسي أستغربه.
- نعم، وهناك، أيضاً طقس الذهاب إلى المقبرة "الجَبَّانة" في العيد، فأهالي منطقتنا كلهم، يخرجون في الصباح الباكر إلى المقبرة، ويزورون قبر كبير العائلة، الرجل، حتى ولو كان قد توفي من سنين طويلة، لا يعيّدون أمام قبر والدتهم، حتى ولو كانت حديثة العهد في المقبرة، وهذا استمرار للتمييز المتعارف عليه في مجتمعاتنا لمصلحة الرجل. ومعلوم أن أي مكان يتجمع فيه الناس في وقت محدد، يصبح مكاناً للبيع والشراء، ففي أحد أطراف المقبرة، تستطيع أن ترى شاباً يقف أمام كومة من "الحُوَّارة البيضاء"، وينادي عليها، فيأتي بعض الزوار ويشترون منه ملء زنبيل أو زنبيلين، ويأخذونه إلى قبر ميتهم، ويفرشونه حوله، ليصبح شكل القبر كما لو أنه جديد، وهناك مَن يبيع الآس، الذي يوضع على القبر، تحبباً لروح الميت.
- سردك رائع أبو مرداس. ولكن، لدي سؤال. لماذا يضعون الآس، تحديداً، على قبور الأموات؟
- بصراحة لا أعرف، ولكنني متأكد من أن شَكْل الآس على الميت عادة قديمة جداً، بدليل أن السيدة الشامية تقول لزوجها، من باب التحبب:
- تشكل آسي يا ابن عمي.
أي: أن أموت قبلك، وأنت تذهب يوم العيد إلى قبري، وتشكل عليه الآس.
(للحديث بقية)