تكرار الاغترار بالطغاة وأساليبهم في حشد القوى
أثبتت التجارب القديمة كيفية وصول الحاكم المستبد إلى تحقيق أهوائه ورغباته في نيل الحكم المطلق والسلطة المطلقة الجامعة بين السلطات التشريعية والقضائية، والتنفيذية، وغيرها، فقد ذكر لنا القرآن تجربة فرعون فقال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) سورة القصص (4).
فقد ذكر المفسرون أن هذه الآية هي لبيان أسباب هلاك الأمم التي هي من سنن الله تعالى القاضية، لتستفيد من هذه التجربة الإنسانية جمعاء، وبخاصة المسلمين، وهي:
1- العلو والاستعلاء والتكبر والاستكبار، يقول ابن عاشور "فإذا استشعر الحاكم ذلك - أي أنه أصبح عالياً على غيره - لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح، وتجنب فساد وضر، وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً".
2- إن الحاكم المستكبر المستعلي يقوم بتمزيق شعبه إلى شيع وفرق ذات نزعات مختلفة، كل فرقة تعادي الأخرى ليتم للحاكم إن أراد أن يضرب بعضها ببعض.
وهذه التفرقة قد تكون على أساس الدين والطائفية، وقد تكون على أساس الأيديولوجية والفكر - كما هو اليوم (العلمانيون، وداخلهم القوميون، واليساريون والليبراليون ونحوهم، وحتى داخل الإسلاميين تُصنع فئات تحارب المنهج الوسط أشد من العلمانيين كما شهدنا).
3- فإذا تمكن الطاغية المستبد من تحقيق التفرقة داخل الشعب وإحداث العداوة بين فرقهم لاستطاع أن يفعل كل ذلك، فيكون قادراً على استضعاف الذين يعارضونه بالقتل والإعدام، وبالسجن والتعذيب، وبالإذلال والاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، فلا يبقى من يقدر على مقاومته ومعارضته، فتلك الغاية القصوى له، فحينئذ يقول: أنا ربكم الأعلى.
4- وفي سبيل تحقيق ما سبق فإن الطاغية المستبد يستعين بمن يقود القوة (مثل هامان) لتحقيق رغباته ومظالمه، كما أنه يستعين بجميع وسائل الإعلام المؤثرة الساحرة (سحرة فرعون) الذين يسحرون أعين الناس فلا ترى الحق، والعدل، وإنما ترى الباطل، وتؤثر في عقولهم فتصاب بالخوف والارتعاش، وهنا يأتي دور السحرة والإعلام الباطل في شيطنة الصالحين وإحقاق الباطل، وإبطال الحق، وتزيين الشرور، وتقبيح الحسن والخير كما يستعين بعلماء السوء لإصدار الفتوى بقتل من يعارض الحاكم لأنه يظهر في الأرض الفساد.
اليوم يتكرر ما فعله فرعون بشكل قد يكون أكثر قوة، وفعالية، وتقنية بسبب تراكم الخبرات، وذكاء المستشارين والسحرة الإعلاميين
5- فالآية تدل على وجود التلازم بين الطغيان والاستبداد من جانب وبين الظلم وإذلال الشعب وتمزيقه من جانب آخر، ويترتب على هذين الأمرين أمر آخر وهو الفساد الشامل أي الفساد الإداري والمالي، والاجتماعي، ولذلك ختم الله الآية بقوله (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي أفسد في الأرض فساداً كبيراً في جميع شؤون الحياة، وأفسد الناس أيضاً.
ويدل على ذلك ما قاله فرعون لسحرته عندما دعاهم لمواجهة موسى "عليه السلام" حيث طلبوا الأجر فأجابهم، قالوا (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) سورة الشعراء (41 - 42)، فبين فرعون أن لهؤلاء السحرة أجرين:
أ- أجراً مادياً يتمثل في النقود والتي تعطى لهم في مقابل عملهم ووقوفهم مع فرعون، وغلبتهم على موسى "عليه السلام".
ب- أجراً معنوياً وهو أعظم بكثير من الأجر الأول، وهو القرب من فرعون، حيث إن تحقق ذلك فستتحقق لهم منافع مادية لا تعد ولا تحصى منها ما يدفعه الناس من الرشاوي لأجل تسهيل مصالحهم، ومنها ما يدفعه فرعون ووزراؤه لهم بين حين وآخر في المناسبات، ومنها دخولهم في المشاركات المالية مجاناً حتى تمشي وتنجح، ومنها غير ذلك.
ومن أخطر وسائل الفساد والإفساد لدى فرعون مستشاروه ومن حوله من الملأ (أي الرؤساء، والقادة) حيث كانوا يشيرون عليه أيضاً بالظلم والقتل دون رحمة، قال تعالى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) سورة الأعراف (127).
فهؤلاء لم يكتفوا بما يفعله فرعون من الظلم والطغيان: يقول ابن عاشور "بل هؤلاء راموا إيقاظ ذهنه، وإسعار حميته، فجاؤوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون، ولعلّهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى، وموعظة الذين آمنوا من قومه، وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده".
ونرى هنا أن هؤلاء الملأ قلبوا الحقائق فوصفوا موسى وقومه بأنهم يفسدون في الأرض، كما أنهم بينوا خطورة بقاء موسى (عليه السلام) على فرعون حيث سيترتب عليه زوال ملكه ودينه وآلهته، فهذه إثارة خطيرة مؤثرة في نفوس الحكام.
اليوم يتكرر ما فعله فرعون بشكل قد يكون أكثر قوة، وفعالية، وتقنية بسبب تراكم الخبرات، وذكاء المستشارين والسحرة الإعلاميين.
فقد رأينا خلال هذه الفترة، كيف استطاع الانقلابيون على إرادة الشعوب أن يشيطنوا قادة الثورات العربية الذين أيدتهم بنسب كبيرة الشعوب، وفازوا في الانتخابات، وكيف فرقوا بينهم وجعلوهم شيعاً مختلفين يحارب بعضهم البعض، وكيف تم القضاء على جميعهم ممن وقف مع الثورة وحتى الذين وقفوا مع الفراعنة، ولكن بدءاً بالفتنة القوية.
وصدق الله العظيم فيما قاله في حق تصرفات الفراعنة قديماً وكيف انطبق على فراعنة العصر، وصدق الله العظيم في أن فراعنة العصر يطبقون جميع ما فعله سابقوهم مع التجديد والإبداع، والتنويع كما قال تعالى (أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) سورة الذاريات (53).
وصدق الله العظيم حيث يغتر لهم معظم الناس، فيقفون مع الظلم والطغيان، ثم تمسهم نيران الطغاة فيندمون، ولكن مع خراب البصيرة (ولات ساعة مندم).