تليقُ بنا الأرض
لكلّ مكان قصيدة، ولكلّ قصيدة زمان. لكلّ زمان فلسفة ولكلّ فلسفة أمة. ولا بدّ لكلّ أمة من سبات، فلا معنى لأيّ صحوة لو لم يكن هذا النوم العميق. ولا يتمكن السبات من أمة ما بدون إيديولوجيا ترعاه، وتمجّد قائد الأوركسترا الذي يعزف لها موسيقى النعاس والشخير. وأما الفلسفة، فهي أولى علامات الصحوة، وبدونها لا تنهض الأمم، فهي عمليات ذهنية مركبة لا تتأتى مصادفة، إنما تحضر للإجابة عن أزمة عبور كبرى تمر بها الشعوب، فتدفعها للتفلسف بحثاً عن مخرج في وقت يكون قد وصل بها التأزم إلى ذروته. وفلسفة زماننا هذا هي الأرض.
الأرض نفسها التي ضاقت بالشاعر الفلسطيني محمود درويش بالأمس، ها هي بدأت تتسع اليوم لآلامنا وأحلامنا. وبما أننا وصلنا إلى ذروة التأزّم في يومنا هذا، فهذا يعني أنّ فلسفة اليوم أكثر نضجاً ووعياً بأزمة الأرض من فلسفة الأمس. وعليه يحق لنا نحن أبناء هذا الحاضر الفوضوي في مأساته أن نعارض أسلافنا أبناء المآسي المنظمة والقضايا الرتيبة.
تليقُ بنا الأرض... تُبعثرنا في المساحات الشاسعة، فنأوي إلى عقولنا كي نمرّ إلى أرجاء هذي السطوح الجديدة، وتمتحننا الأرض كي نُعمل أذهاننا في الطريق إلى ما لا نعرف، لعلنا نتعلّم أسرار هذه الجغرافية الغامضة. ليس عبثاً تقابلنا هنا ولا عبثاً افترقنا. يا ليتنا أشجارها كي نجهل ونفهم. ويا ليتها امتدادنا كي تتعشقنا جذورنا. ها نحن أصبحنا صوراً لجراحنا، لكننا ما زلنا مرايا لأحلامنا. بذلنا الدموع بحوراً على من سرقوا ابتساماتنا وسبقوا خطانا إلى باطنها. لم نكن لنفكر فيهم لو لم نبك عليهم.
كلّ هذا العبث الذي حلّ بالأرض وأبنائها ليس إلا محاولة بشرية لترتيبها
لم أنم بالأمس، وأنا أرتب هذا الطريق الفوضوي كي لا أجهد حاضري بالبحث عنّي. أسرفت ثلثي هذا الليل الطويل، وأنا أخاطر ذاتي بفكرة واحدة: هل كان لي أن أتعلم لو لم أتألم؟ وحينما وجدتُ إجابةً، تُرضي فضولي مؤقتاً، قلت في نفسي ساخراً من أناي: ليتني لم أجدها! كنت أظن بأنني اثنان؛ واحدٌ مني ملائكي، وآخر شيطاني الملامح، ولطالما ادّعيتُ بأنه غريبٌ عني. ولطالما زعمت، مثلي مثل أيّ بشري في هذا الكون السرمدي، بأنّ نصفي الشيطاني مؤامرة من الأعداء الحاقدين تستهدف نصفي الملائكي. يميل البشري دوماً للعب دور الضحية، حتى وإن كان غارقاً بالخطايا والذنوب.
لم تكن لهذه الأرض قبل وجودنا حدود كي تضيق علينا، وليس ذنبها هي أننا نحن من قطعنا أوصالها. لم تساهم هذه البقع الجغرافية باختيار ألوان أعلامها، ولم تنتخب راعياً بشريّاً لها، ولم تهتف ملء حناجرها للزعيم. لم تكن لهذه الأشجار أسماء، ولم تعرف تلك النباتات ألقاباً. لا تنتمي الحيوانات إلى فصائل، ولا تفخر بانتمائها للقبائل والعشائر. لم تغرّد الطيور بأصوات الطوائف والمذاهب، ولم تعزف الرياح أهازيج الحروب. حتى الجحيم لم يكن ليكون لولا أننا أوجدناه. إنّ كلّ هذا العبث الذي حلّ بالأرض وأبنائها ليس إلا محاولة بشرية لترتيبها.