تنويعات نِزارية على مقام الكتابة
عبد الحفيظ العمري
الحديث عن شاعر بحجم الشاعر السوري الراحل، نِزار قباني (21 مارس/أذار 1923- 30 إبريل/ نيسان 1998م) حديث لا ينتهي؛ فالرجل عاش تجربة حياة ثرية، بكلّ تنويعاتها الشِعرية والسياسية والاجتماعية، فهو الشاعر والكاتب والسياسي (عمل سفيراً لبلاده في أكثر من دولة قرابة عشرين عاماً، قبل أن يقدّم استقالته ويتفرغ للشِعر عام 1966م).
أصدر أول ديوان "قالت لي السمراء" عام 1944م، وهو لا يزال طالباً في كلية الحقوق بدمشق، ثم تتابعت الدواوين، حتى بلغت ستةً وثلاثين ديواناً، إضافة إلى قرابة ثلاثة عشر من الكتب النثرية، التي تضم سيرته الذاتية ومقابلاته ومقالاته وغيرها. وقد جُمعت كلّ هذه الأعمال في تسعة مجلدات ضخمة باسم الأعمال الكاملة، وصدرت عن دار النشر التي أسّسها نزار نفسه في بيروت باسم "منشورات نزار قباني"، عندما استقال من وزارة الخارجية متفرّغاً للشِعر.
كتب الشاعر فاروق شوشة عن نزار مقالاً في مجلة العربي، جاء فيه: "ومنذ ديوانه الأول "قالت لي السمراء" الذي أصدره عام 1944 والناس مختلفون عليه: بين عاشقين لشِعره حتى الجنون، وكارهين له ومطالبين بدمه حتى الموت".
والحقيقة أنّ هذا الانقسام يكون دوماً حول كلّ ما هو مثير للاهتمام، ألم يقل النقاد عن أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الأكبر، أنه ملأ الدنيا شعراً وشَغَل به الناس؟
ونزار قباني شاعر كبير في عصرنا، فالانقسام حوله أمر طبيعي، وهو الذي جعل الشِعر جماهيرياً، في صياغة سلسة تحسّ بقربها من لغة الخطاب اليومي.
أما التهمة الكبرى، التي رُمي بها الرجل فأنه دخل مخدع النساء ولم يخرج منه، في إشارة إلى أنه أوقف جُلّ شِعره على وصف المرأة، بكلّ خصوصيتها، وصفاً يفوق الجرأة إلى حدٍ بعيد.
يخلص الدكتور نبيل خالد أبو علي، في كتابه "نزار قباني شاعر المرأة والسياسة"، إلى أنّ عوامل اهتمام نزار بالمرأة في شِعره، تعود إلى نشأته المدلّلة في أسرة ميسورة الحال، تمتلك بيتاً واسعاً يشبه الجنة بنوافيرها، وزهورها، وأغاريد طيورها. كما أنّ الوراثة التي ورثها عن والده وأسرته تعتبر من السمات النفسية والسلوكية، خاصة أنّ والده كان يهتزّ لكلّ ما هو جميل. وثالث هذه العوامل، انتحار أخته الكبرى "وصال"، التي لم تستطع أن تتزوّج حبيبها، وهذا ما ذكره نزار نفسه في كتابه "قصتي مع الشِعر"، إذ قال: "هل كان موت أختي في سبيل الحب أحد العوامل النفسية التي جعلتني أتوفر لشِعر الحب بكلّ طاقتي، وأهبه أجمل كلماتي؟ هل كانت كتاباتي عن الحب، تعويضاً لما حُرمت منه أختي، وانتقاماً لها من مجتمع يرفض الحب، ويطارده بالفؤوس والبنادق؟".
نزار قباني شاعر كبير في عصرنا، فالانقسام حوله أمر طبيعي، وهو الذي جعل الشِعر جماهيرياً، في صياغة سلسة تحسّ بقربها من لغة الخطاب اليومي
وأيّاً كانت هذه العوامل، فإنني أجد النفسية العربية مجسّدةً في شخص نزار قباني؛ فقد باح في شِعره، بكلّ ما لم يستطع العربي أن يبوح به، وإن كان بجرأة تصل إلى حدود الإسفاف!
ودعوني أتساءل: ألا تجيش في نفس المواطن العربي كلّ تقلبات نزار من نزوات وأهواء وغضب وحبّ وغيره؟
الفارق أن نزار قالها شِعراً في أعماله، سواء الغزلية أو السياسية، والناس العاديون لم يقولوها.
وهنا ندلف إلى شِعر نزار السياسي، الذي لا يخرج عن تقلبات النفس كما ذكرنا أعلاه، وليس صحيحاً أنّ شِعره السياسي بدأ مع نكسة 67، التي عبّر عنها بقصيدته المشهورة "هوامش على دفتر النكسة"، بل قبل ذلك بكثير؛ فقصيدته "خبز وحشيش وقمر"، التي نشرتها مجلة الآداب اللبنانية عام 1954م، أثارت لغطاً كبيراً، آنذاك، لدرجة أنّ مجلس النواب السوري، اجتمع في عام 1955م لمناقشتها، بل طالب البعض بطرد نزار قباني من وزارة الخارجية.
وتتابعت بعد ذلك أشعار نزار الغزلية والسياسية، وهذه الأخيرة، كانت نارية القَسَمَات، غضبى، وهي تشرّح المجتمع العربي، بقدر رِقة الأولى وعذوبتها، لو استثنينا منها شطحات نزار العقائدية والإباحية!
وأجد في شِعر نزار السياسي تفوّقاً على ما قدمه الشاعر العراقي أحمد مطر، الذي أوقف شعره على الهجاء السياسي فقط، لكن نزار كان متنوّع النقد في شِعره السياسي؛ فلم يوجّه سهامه للحكّام فقط، كما يفعل أحمد مطر، بل انتقد نزار المجتمع العربي بكلّ طبقاته، من الحاكم حتى رجل الشارع العادي، وهذا ما ينسجم مع واقع الحال، فالكل مشارك في صناعة الكارثة، وإن كان الحكّام يتحملون النصيب الأكبر.
ألا تجيش في نفس المواطن العربي كلّ تقلبات نزار من نزوات وأهواء وغضب وحبّ وغيره؟
والنثر له نصيب في كتابات نزار، وأسلوبه في النثر لا يقل جمالاً عن أسلوبه في الشِعر وسلاسته؛ إذ يقول الشاعر فاروق شوشة، عن كتاب نزار النثري "مائة رسالة حب": "هذه اللغة السلسة الصافية المتدفقة، وهذه الكتابة الإبداعية شديدة الانسياب والرهافة، هي نفسها لغة نزار في شِعره".
ولنزار عدّة كتب نثرية، جُمعت في المجلدات الثلاثة الأخيرة من الأعمال الكاملة، منها مذكراته في كتابه "قصتي مع الشِعر"، معللاً سبب كتابتها بقوله: "أريد أن أكتب قصتي مع الشِعر قبل أن يكتبها أحد غيري.
أريد أن أرسم وجهي بيدي، إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني.
أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي، قبل أن يقصني النقاد ويفصلوني على هواهم، قبل أن يخترعوني من جديد.
لا يستطيع أحد أن يكون فمي أكثر من فمي.
ثلاثة أرباع الشعراء من فيرجيل، إلى شكسبير، إلى دانته، إلى المتنبي، من اختراع النقاد، أو من شغلهم وتطريزهم على الأقل.
ومن سوء حظ القدامى أنهم لم يكونوا يمتلكون دفاتر مذكرات".