ثكالى غزة
قال المندوب الفلسطيني، رياض منصور، لدى مجلس الأمن في الجلسة المنعقدة في 31 أكتوبر 2023: "إن عدد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل في غزة منذ بدء حملة الإبادة نحو 3500 طفل، أي هناك طفل فلسطيني يقتل كل خمس دقائق". وفي السياق نفسه، أعلنت اليونيسف أن هناك نحو 420 طفلاً يقتل يومياً في غزة على يد إسرائيل.
أي إن غزة صارت موطناً للأمهات الثكالى. لا أظن أن هناك مكاناً في العالم يوجد لديه هذا العدد من الأمهات الثكالى، ولا يوجد مكان في العالم لديه هذا العدد من الأطفال أيضاً، نحو مليون طفل يعيشون في غزة، أي نصف سكان غزة. الأمهات يقاومن الاحتلال والموت بالولادات. وقال وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة في قطاع غزة، الذي فقد نصف أطفاله، كان قبلاً قد وزع أطفاله بالتقاسم بينه وبين أخيه، لكيلا يموتوا جميعاً في حال تعرُّض منزله للقصف: "هما قاصدين يقتلونا في ولادنا. معلش". غزة حالة فريدة، فالأطفال كما قالوا لا يكبرون، يولدون للقتل. عند سؤال طفل غزاوي عن حلمه عندما يكبر، أجاب: "نحن الأطفال هنا لا نكبر"، لذا قام النشطاء على السوشيال ميديا بتدشين لوغو بعنوان "ثكلى/ان".
بالرجوع إلى لسان العرب لابن منظور، نجد أن الثُّكْل هو الموت والهلاك. في الصحاح: فُقْدان المرأَة ولدَها. والثَّكُول: التي ثَكِلَتْ وَلَدَها، وقد ثكِلَتْه أُمُّه ثُكْلاً وثَكَلاً، فهي مفجوعة به. هذه الكلمة لا توجد في اللغات الأخرى بالمعنى نفسه. يقول المترجم المصري، هشام فهمي، في حسابه على الفيسبوك: "صحيح. أقرب كلمة إنكليزيَّة هي Bereaved، ومع أنها بتعبَّر تحديدًا عن الفقد بسبب الموت، فهي ما زالت كلمة عامَّة ممكن يُضاف إليها Parent أو Child أو حتى Lover، فمش معبِّرة بالضرورة عن ثكل الأب والأم حصرًا. علشان كده في 2009 قدِّمت كارلا هولوواي، أستاذة اللغة الإنكليزيَّة في جامعة چيمس بي دوك، اقتراح إدخال كلمة معبِّرة عن المعنى ده تحديدًا للإنكليزيَّة، وقادها البحث إلى كلمة سنسكريتيَّة هي Vilomah، معناها الحرفي "ضد النظام الطبيعي"، بمعنى أن المفروض حسب النظام الطبيعي الآباء والأمهات يموتو بالشيخوخة بعد ما أولادهم يكبروا، ومش مفروض يحصل العكس. الكلمة لسَّا بتتوغَّل في اللغة الإنكليزيَّة على استحياء، وإن بدأت مجموعة من المنظمات والجمعيَّات الخيريَّة استخدامها، خصوصًا المعنيَّة بمساعدة الثكالى، وظهرت في كذا عنوان كتاب بيتعرَّض للمسألة دي تحديدًا".
لا تنتظر الأم الفلسطينية أن يكبروا أطفالها ويدخلوا المدارس والجامعات ويتزوجن وينجبن مثل كل أطفال العالم
في غزة ترتفع أصوات الثكالى: "سرقوا منا أحلامنا". "كانوا نايمين نزل عليهم الصاروخ". "كنت راح أحضر لهم العشا. كانوا جعانين". الأمومة في فلسطين صارت خوفاً وقهراً وفقداً دائماً. لا تنتظر الأم الفلسطينية أن يكبر أطفالها ويدخلوا المدارس والجامعات ويتزوجوا وينجبوا مثل كل أطفال العالم، ولكن تنتظرهم سريعاً في الجهة المقابلة، الاعتقال، الموت، الإعاقة، هذا بالإضافة إلى حالات الإجهاض اليومية بسبب الرعب اليومي للقصف، فتموت الأجنة ويرتفع عدد الأمهات اللواتي يمتن بسبب الحمل.
يصف إبراهيم مطر، وهو شاهد على الحرب كطبيب من مشافي غزة، أحد أكثر المشاهد إيلاماً: "رأيت أمهات يركضن في الممرات، ويبكين وكأن الدنيا قد انحسرت في قلوبهن، ويلهثن بأسئلة عارمة، ويصرخن: "عايشين؟ مين ضل عايش؟ وين ولادي؟ مليش غيرهم يا الله"، بينما تصف الشهيدة هبة أبو ندى الوظيفة الأساسية للأمهات في غزة؛ ألا وهي القلق، قائلة: "لا تفهم الأمهات المكالمات العادية التي تهدف إلى الاطمئنان أو السؤال عن موعد العودة إلى البيت، فدائماً في خيالهن ثمة مصيبة وراء كل سؤال، أو شيء حدث ونحن نخفيه عنها. يا الله ألا تتوقف الأمهات عن القلق!" (عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
وفى غزة أيضاً، وفي فلسطين، تتشكل حركة قوية "حركة الأمهات الثكالى"، وربما تنضم إليهنّ "ثكالى السودان"، و"ثكالى سورية"، "وثكالى العراق". لكي يقفن أمام الحرب التي تجتاحهن، وتخطف الحياة منهن.
أصوات الأطفال القتلى في مجزرة المعمداني، وفي مجزرة جباليا، تتصاعد، نواح الأمهات الثكالى، يعلو، كأنهن مريمات جدد. لقد كانت مريم العذراء ثكلى مثلهم، عندما قتل ابنها أيضاً. فلسطين لا تتوقف عن تقديم مريمات وتقديم مسحاء.