ثلاث سنوات سجن لخاطفي الفتاة سمارة
قدمتُ لصديقي أبو أحمد ملخصاً صغيراً عن حكاية واقعية قديمة، جرت أحداثُها في مسقط رأسي، بلدة معرتمصرين، وكنت قد وضعتُ لها عنواناً يشبه العناوين البوليسية هو: "خطف سَمَارة من طرطوس"..
قلت: قبل أكثر من أربعين سنة، قررتْ مجموعةٌ من الأصدقاء الشبان الذهابَ من معرتمصرين إلى مدينة طرطوس الساحلية، وخطف البنت سمارة التي يحبها صديقُهم عبودي.. زعم عبودي أن سبب ورود فكرة الخطف إلى ذهنه، أن أهل سمارة رفضوا تزويجها له على سنة الله ورسوله، ومن يوم أن رفضوا تزويجها له لا يعرف الليل من النهار، وإذا نام يكون نومه فَزَزَاً، وقد أخبرته والدته، قبل أيام، أنه استيقظ في الليل وصار يدور في باحة الدار ويصيح سمارة سمارة، وهي، أي الوالدة، لا تعرف ماذا يعني سمارة، وقد التبس عليها الأمر، وقالت لنفسها: لو أنه ركض في الباحة نهاراً وهو يصيح (سمارة، سمارة) ممكن أن تفكر بأنه يقوم بمسيرة تأييد مثل التي شهدتها البلدة بمناسبة الحركة التصحيحية..
ضحك أبو أحمد وقال: يقوم بمسيرة تأييد، ويرفع لافتة يكتب عليها بالروح بالدم نفديك سمارة؟
قلت: نعم. لقد كان حالُ عبودي -كما علمت من صديقه سفيان في ما بعد- لا يسر صديقاً ولا يغيظ عدواً.. المهم أن الروح المعنوية للأصدقاء كانت عالية جداً، وقرروا أن يخوضوا المغامرة إكراماً لصديقهم الغالي.. وقد جرى التخطيط للعملية في منزل عبودي نفسه، وكان الشرط الأساسي الذي أطلقه سفيان، ووافق عليه الآخرون، أن يبقى الموضوع سرياً للغاية، لأن هذه العملية، بمقتضى القضاء السوري، إذا افتضحت، جنائية الوصف، لا تقل عقوبة سجن كل واحد منهم عن ثلاث سنوات، وقد تصل إلى عشر سنوات إذا كان القاضي متشدداً.
وقال سفيان: أنا أعرف أن بعضنا لسانُه مثل بردعة الجحش المفتوقة، قلما يلفي إلى تجويف فمه، ويستحيل أن ينعقد على كلمتين..
قاطعه عبودي: مَن تقصد بكلامك؟
سفيان: أقصدك بالدرجة الأولى، فأنت لم تحتفظ بأي سر طوال حياتك، ولا شبيه لك في معرتمصرين غير "الحاج قره فشّة".
سألني صديقي أبو أحمد وهو يضحك: ومَنْ يكون الحاج قره فشّة هذا بلا صغرة؟
قلت: إن الحاج قره فشّة رجل من أولئك الذين يمضون معظم أوقاتهم في السوق، يتوقف عند أحد الدكاكين، يسمع خبراً، أو حكاية، أو حادثة، فيحملها ويدور بها على بقية الدكاكين، ويبدأ بسردها، ولا يمضي النهار حتى تكون معرتمصرين كلها قد عرفت بالخبر أو الحكاية.. والحاج قره فشة قلما ينقل خبراً مثلما سمعه، لأنه، أصلاً، يعاني من نقص في السمع، وصعوبة في الفهم، فتراه يلجأ إلى رَدْم الفراغات في السالفة التي سمعها مضيفاً إليها تفاصيل من عنده.. ومن أطرف ما جرى مع قره فشة أنه، عندما ظهر راديو مونتي كارلو -في السبعينات على ما أعتقد- اكتسب لقب مونتي كارلو الدولية!
قال سفيان: نعم. وشقيقي منذر عنده مسدس ستاندر 9 ملمتر، لن أستعيره منه لئلا يعرف بخطتنا، ولكنه عندما ينام يدحشه عادةً تحت المخدة، أنا يمكنني أن أتحايل عليه وأسرقه منه..
وكان أبو إسماعيل الفنطي، صاحب مقهى الفنطي للأراكيل العجمية، عندما يأتي الحاج قره فشة بخبر، يضع يديه حول فمه، ويخطب في زبائن المقهى بصوته الجهوري، قائلاً: آر. إم. سي.. راديو مونتي كارلو.. إحم إحم.. أفاد مراسلنا في معرتمصرين الأستاذ قره فشة.. (ثم يذيع الخبر الذي سمعه من قره فشة تواً).
قال أبو أحمد: لا شك أن قره فشة هذا من أجمل الشخصيات البلدية التي سمعتُ عنها طوال حياتي. المهم الآن، عد بنا، لو سمحت، إلى شلة عبودي وخطف البنت سمارة.
قلت: لم يصدق سفيان تأكيدات عبودي على أنه سيحتفظ بالسر، ومن باب الاحتياط قال إنه لن يرافقهم في هذه الرحلة إذا لم يُحضروا مصحفاً شريفاً، ويتوضأون، ويحلفون جميعاً على أنهم سيكتمون السر.
قال عبودي: انتظروني خمس دقائق.
وغادر الدار، غاب قليلاً، وعاد ومعه مصحف يبدو أنه استعاره من بيت الجيران، ولم يتوانَ الأصدقاءُ الأربعة بالإضافة إلى سفيان نفسه، عن حَلف اليمين، وانتقلوا بعدها إلى بند تمويل السفرة، فما هو معروف أن عبودي العاشق الولهان مفلس على الحديدة، ومثله سفيان وأحمد وسليمان، وكان لا بد أن يتطوع خامسُهم "طاهر" بشيئين، الأول سيارتُه، وهي تتسع للأصدقاء كلهم في الذهاب، ويمكن أن يصبح المكان ضيقاً أثناء العودة، لأن الفتاة المخطوفة سمارة ستكون معهم، والشيء الثاني هو النقود، وهنا تدخل عبودي وقال: لأيش تلزم لنا النقود؟ بالنسبة للتدخين، كل واحد علبة سكائره في جيبه، وأما الأكل، فأنا مستعد أن أصنع بعض القَضُّوضات من الزيت والزعتر، والزيت والنعناع، وخبز بدبس البندورة، وهذا يكفي لنا في الذهاب والإياب، يا سيدي، ومستعد أن آخذ ثلاث بيدونات من ماء الجب، لأجل الشرب عندما نعطش. وخلصنا.
قال سفيان: نعم. وشقيقي منذر عنده مسدس ستاندر 9 ملمتر، لن أستعيره منه لئلا يعرف بخطتنا، ولكنه عندما ينام يدحشه عادةً تحت المخدة، أنا يمكنني أن أتحايل عليه وأسرقه منه..
قال سليمان: لأيش المسدس؟ أظن عبودي متفق مع سمارة أن تهرب معه دون شوشرة.
قال عبودي: طبعاً، بمجرد ما أصفّر لها بفمي، تحمل بقجتها وتتبعني مثل الطير الطائر. ووقتها يكون طاهر قد فتح باب السيارة الأمامي، أنا أصعد وهي تصعد بجواري، وبقية الشباب يركبون في المقعد الخلفي، ونمشي.
قال سفيان: يا أخي المسدس نأخذه من باب الاحتياط. ماذا سنخسر عليه؟ إذا كان المسدس يأكل ويشرب، وجاع، نطعمه قَضُّوضة من زوادة العاشق الولهان عبودي، وفضت يا عرب!
بدأ وَضْعُ الخطة في موعد التنفيذ عند تمام الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم. أخذ طاهر سيارته، بحسب الاتفاق إلى طريق إدلب، وأوقفها إلى يمين الطريق مقابل محطة بنزين كانت في تلك الأيام تعرف باسم (ترمبة الترسوسي)، وصار الأصدقاء يأتون وحداً تلو الآخر، ويصعدون إلى السيارة، حتى اكتمل عديدهم. وقبل أن ينطلقوا سألهم سفيان: هل اتخذتم احتياطات الأمان اللازمة، فلم يعرف أحد بما ننوي فعله؟
قالوا: نعم.
وقال لطاهر: السيارة جاهزة من حيث البنزين والزيت والدواليب؟
قال: نعم.
فانطلقوا، وقتئذ، على خيرة الله.
(للقصة تتمة)