جنديرس.. عندما يعبر الجزء عن الكل
في مساء يوم الاثنين الماضي، هزّت جريمة مروعة مدينة جنديرس الواقعة في شمال غرب سورية، حيث أقدم ثلاثة عناصر من الجيش الوطني على قتل أربعة أشخاص من المكون الكردي أمام منزلهم بدم بارد. وفي صورة تتكرّر يومياً في الشمال السوري، لم تكن هذه الجريمة حادثة استثنائية، بل متكرّرة على امتداد الشمال السوري، فلا يمرّ يوم إلا ونسمع ونرى العديد من الانتهاكات بحق السوريين. ولكن، ما الذي يجعل الانتهاكات وكأنها روتين عادي؟ أو لماذا الانتهاكات تظهر وكأنها القاعدة وليس الاستثناء في الشمال السوري؟
لا أريد الحديث عن خلفية المجرمين النفسية، بما أنهم ينتمون لمؤسسة، فمن الطبيعي أن تتحمل المؤسسة التي ينتمون إليها المسؤولية الكاملة عن جريمتهم. فهذه المؤسسة هي التي سمحت لهم بالانتساب لصفوفها، وهي من تحميهم، وهي من تسهل لهم طريق الإجرام بهشاشتها الهيكلية وفسادها الذي يعدّ القاعدة وليس الاستثناء. من جهة أخرى، يدعو هذا الحدث إلى ضرورة تربية العسكريين وتدريبهم على مبادئ القيم الإنسانية الأساسية مثل العدالة والحقوق الإنسانية والمساواة. قد يكون هذا الكلام مثالياً، خاصة في الشمال السوري، ولكنه يندرج تحت مبدأ "لا بد مما ليس منه بد".
مراهقون حوّلتهم المؤسسة إلى مجرمين، عن طريق السماح لهم بالانتساب إلى صفوفها دون تلقينهم قيم ومبادئ الثورة، وهذا أول طريق الإجرام، وإعطائهم راتباً لا يكفيهم لأسبوع، وسلاحهم بيدهم لا رقيب عليه إلا ضميرهم الهش، وقضاء عسكري اقتنع الجميع تقريباً بأنه ليس أهلاً للثقة؛ يغيّب عنهم كل ساحات الفضيلة، ويزين لهم ساحات الرذيلة، ويصنع منهم ملوكاً فيها. فلا يمكن إبعادهم عن الأخيرة إلا بتربية عسكرية صارمة أساسها قيم الثورة التي من مبادئها: الشعب السوري واحد.
إحدى أهم الاستراتيجيات التي اتبعها نظام الأسد في كسب الولاء المطلق للأجهزة الأمنية هو إخراجهم من دائرة العقاب. نفس الأمر ينطبق على رؤوس العسكرتارية في الشمال السوري، فمن يمسك بزمام الأمور في المنطقة، وفي سبيل كسب بعض الفصائل نسبياً وبعضها الآخر بشكل مطلق؛ يجرى إبعادها عن دائرة العقاب مهما فعلت. يجب عدم إنكار أن بعض قادة الفصائل/أمراء الحرب يفضلون هذا الأسلوب، فالحرمان الاجتماعي والاقتصادي شكل أرضية جاذبة لمثل هذه العلاقة بين الرأس والقاعدة.
تركيا المتحكمة بمفاصل الفصائل وغيرها ومنذ سنوات طويلة تتبع هذا الأسلوب مع الفصائل الموالية لها، والفصائل تعاملت مع عناصرها بنفس الأسلوب. هذا التسرب السلوكي من الرأس نحو القاعدة أنتج سلوكاً عدوانياً لكثير من عناصر الفصائل، يقتلون ويسلبون وهم مطمئنون بأنهم لن يحاسبوا على شيء. فمن أمن العقاب يسيء الحياة وليس الأدب فقط. وأبرز مثال على ذلك اغتيال الناشط أبو غنوم وزوجته، فما زال المجرم حراً طليقاً. وأكاد أجزم بأن مجرمي جنديرس لن يحاسبوا.
مميزة عن غيرها؟
مآسي السوريين كثيرة جداً، ومتشابهة أيضاً، إلا أن مأساة جنديرس فيها أمر مختلف. بعد تحرير مدينة عفرين من قوات حماية الشعب الكردية، تعرض الأهالي فيها لانتهاكات جسيمة من قبل بعض الفصائل، كالسيطرة على الأراضي الزراعية وأشجار الزيتون، والعقارات. والدافع الرئيسي هو أن أصحابها من الكرد، حيث يوضعون جميعاً ضمن خانة حزب العمال الكردستاني، وهذا الأمر يجرى على علم كل قادة الفصائل. فما يميز الانتهاكات بحق الكرد السوريين هو الموقف تجاه الأكراد في المنطقة.
لا يمكن أبداً أن يكون الاحتفال بعيد النيروز هو السبب وراء هذه الجريمة، منذ سنوات طويلة يحتفل الكرد بهذه المناسبة ولم يقتل أحد بسبب ذلك. في بيئة مثل بيئة الثورة السورية، الإنسان فيها متحرر من الزواجر، فليس هناك ما يردعه إلا دينه الحنيف وأخلاقه وإنسانيته، فغياب تلك الزواجر نتج عنه ما يمكن تسميته "تعليب التهمة"، أي أن مبرر الاعتداء جاهز، هذا كردي يتعاون مع قسد، أو حزب العمال الكردستاني، أو مع النظام؛ فشرِّدوا بهم من خلفهم واقتلوهم حيثما ثقفتموهم.
ماذا بعد؟
مبدئياً، في حال بقيت الفصائل في داخل مدينة جنديرس، فيتوجب عليها الالتزام بقواعد معينة تهدف إلى حماية المدنيين وضمان سلامتهم، والامتناع عن استخدام الأسلحة ضد المدنيين أو الممتلكات المدنية. هذا الجنون بعينه. كيف على من امتهن الإجرام أن يفعل ذلك؟ إذاً، يجب إخراج الفصائل من جنديرس وغيرها مهما كلف الأمر. المدن غير المأهولة بالمقرات العسكرية الانتهاكات فيها أقل، وهذا ما تمكن ملاحظته في بعض مدن الشمال السوري، كمدينة إعزاز مثلاً.
الأهم من ذلك، وأرى أن الانتهاكات لا تنتهي بدون تربية عسكرية صارمة لكل منتسب للجيش الوطني، وتسريح المنحرفين سلوكياً، وأن يكون المبدأ: السلوك أولاً والباقي تفاصيل. ولكن من سيقوم بكل هذا؟ هنا لا بد من التأكيد أن الحل لا يخرج عن حالتين، إما أن يفرض من الخارج، أو أن يكون سورياً سورياً، وهذا يتطلب تغليباً للمصلحة العامة على الخاصة، والوطنية على الفرعية. ليس مستحيلاً أن نعتقد بسوريتنا، إنما المستحيل أن نترك هؤلاء الحثالة يزرعون الكراهية بيننا ويشوهون ثورتنا.