حروب الذاكرة
"لم يكن هناك أبدًا مساجد في زفورنيك".
هكذا صرّح عمدة المدينة الصربيّ، برانكو غرويتش، بعد أن قتل جيشُه من قتل من سكّانها وهجّر من بقي منهم، ودمّر ما دمّر من مساجدهم وحرق الباقي. كان العمدة يعلم أنّ من يسمعون هذا التصريح قد رأوا خلاف ذلك. فقبل أشهر قليلةٍ فحسب، كانت المدينة عامرةً بجوامع المسلمين، ولكنّه بكلماته هذه كان يحاول محو مجتمعٍ بأكمله عبر محو أيّة أدلّةٍ حسيّة قد تشير إلى وجوده. كان بحاجةٍ إلى تطهير الأرض من المساجد ليطهّر التاريخ من الوجود الإسلامي، فيدعم بذلك رواية النقاء الصربيّ، مزيلًا أيّ أثرٍ قد يتناقض مع هذه السرديّة.
وقفت دوافع شبيهةٌ وراء حادثة ليلة البلّور في شتاء عام 1938 (Kristallnacht)، التي سُميَت بذلك لكثرة الزجاج المتطاير من المعابد اليهوديّة التي دمرها النازيون في ألمانيا: كانت محاولةً لمحو شعبٍ كامل من الوجود عبر حرمانه ماضيَه وحاضرَه ومستقبلَه.
نتوقّع، دون وعي، أنّ أعمار المباني والصروح الهندسية أطول من عمر الإنسان، فالحجارة والبلاط والأساسات الخرسانية الضاربة في جوف الأرض المغروسة في أعماق التاريخ لا تهتز مع مرور الزمن، ولا تزعزعها الرياح، ولا يحنيها البرد. فالطفل يُولد في ذات البيت الذي عمّره جده وسكنه والداه وكبرت فيه أخته، يرتاد المدرسة ذاتها التي تعلّم فيها أبوه وأمّه وأخوه. يخطو إلى المسجد عينه الذي يزوره كلّ يوم جمعةٍ منذ نعومة أظفاره؛ وهو الجامع نفسه الذي ارتاده أبوه وجده وجدّ جدّه من قبله. البيت، والمدرسة، والجامع، كلّها تعمّر طويلًا، فتُطبَع في أذهاننا كجزءٍ من الحياة اليوميّة الطبيعيّة. لا يمكن فصل الأماكن عن الذاكرة، فالذاكرة والمكان كائنان حيّان لا يفترقان، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر. تشكّل الأماكن ذاكرة الأفراد الذين عاشوا فيها، وتشكّل أيضًا الذاكرة الجمعية، فتُساهم في فهمنا لأنفسنا كجزءٍ من كيانٍ أكبر يتجاوز حدود الجسد. ماذا يحدث إذًا عندما تتلاشى هذه المباني؟ كيف نتعامل مع اختفاء الجانب الماديّ للذكريات، ذلك الذي يفترض أن يبقى حتّى بعد أن تتلاشى الضحكات وتشيب الرؤوس ويمحو الزمان تفاصيل المحادثات؟
تشكّل الأماكن ذاكرة الأفراد الذين عاشوا فيها، وتشكّل أيضًا الذاكرة الجمعية
إنّ فقدان المألوف الحسيّ قد يعني النفي من الذكريات التي نستحضرها بالأماكن، إنّه تهديدٌ للهُوية والاستمرارية الطبيعية للذاكرة. تُقاتل الدبابات البيت والمسجد، وتُعلن القذائف الحرب على طريق الحارة والمقهى، فتموت بذلك الذكريات، وتُغتال صباحات القهوة التي كنّا نرتشفها مع الأحبّة، ومباريات كرة القدم العفوية، وقصة ما قبل النوم التي كانت تنتهي بقبلةٍ دافئةٍ على الجبين لولا وابل الصواريخ وزخات الرصاص. هي حربٌ غير متكافئة، لا على المادة فقط، بل على المشاعر والطموحات والأحلام أيضاً.
يخوض الفلسطينيون حروبًا كثيرةً ضد الوجود الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في أرضهم، وعلى رأسها حروب الذاكرة. بالنسبة إلى المستعمر، لا يعود البيت مجرّد بيت، ولا الساحة ساحةً، ولا المسجد مسجدًا، ولا المبنى مبنى، ولا الطريق طريقًا، بل جميعها تمثّلاتٌ ماديّةٌ ملموسةٌ ودلائل حسيّة على وجود جماعةٍ من الناس يجب محوها. تربط المباني الماضي بالحاضر، ولا تريد إسرائيل لهذا الارتباط أن يمتدّ إلى المستقبل. فعندما يصوّب الاحتلال سهامه على غزّة بلا أهداف عسكريّةٍ محدّدة، فإنه بذلك يستهدف التاريخ، ظانًّا أنّه بمحو المادة يمحو الذاكرة. إنه يحرم الناس حاضرهم الذي يعيشونه ويعرفونه، ومستقبلهم الذي يتطلعون إليه وينتظرونه، بل ومن ماضيهم الذي يُعرّفون أنفسهم به ويرون أنّهم بحاضرهم إنّما هم بعض ثمار جذوره الضاربة في عمق التاريخ وغنى التجارب والذكريات. فهل يستطيع المعتدي المحتل أن يزيل الماضي إن هو أزال تجسّداته المادية؟ هل اختفى تاريخ مسلمي البوسنة والهرسك حين دمّر المجرم الصّربي مساجدهم وأنكر وجودها؟ وهل محى النازي الألماني الوجود اليهودي في ألمانيا حين هدّم معابدهم وأحرق بيوتهم؟ وهل يعتقد المحتل الصهيوني أنّه سيكون قادرًا على طمس التاريخ، ومحو الماضي، وخنق الذاكرة، وقطع جذور شعبٍ له حضارةٌ وأمجادٌ حين يهدم ويدمّر ويقصف ويحرق؟
تربط المباني الماضي بالحاضر، ولا تريد إسرائيل لهذا الارتباط أن يمتدّ إلى المستقبل
لطالما لفتتني التفاعلات الاجتماعية للمباني والصروح الهندسية، ولطالما أثارت فضولي المعاني السياسية التي تكتسبها المباني عبر حيثيّات بنائها وتجارب الناس فيها، ولكنني أرى اليوم وجهًا آخر لتسييس المباني: فالمباني تكتسب معاني سياسيّة واجتماعية بكيفية تدميرها، تفوق أحيانًا تلك التي تكتسبها بطريقة بنائها. ليست الأماكن مجرّد خلفيّاتٍ تقوم على أسطحها الأحداث، ولكنّها التجسيد الملموس لتجارب الحياة ووقائعها. تتشكل الذكريات، فتؤنسن الأحداث، وتهب الأماكن نبض القلب وروح الحياة. إنّ تدمير هذا التجسيد قد يمحو جزءًا من الذاكرة، ولكنّه في الوقت عينه يخلق ذاكرةً جديدةً لا مجال لتحريفها. يؤكّد الاحتلال، قنبلةً تلو القنبلة، ورصاصةً تلو الرصاصة، أنّه هو نفسه الذي قتل الأصدقاء ودمّر البيوت وسفك دماء الجيران، وهو نفسه الذي يرمي قنابله الآن على مساجدنا، ويدوس بمجنزرات دباباته مزهوًّا فوق حطام مدارسنا، ويمحو، بضغطة زرٍّ سريعة، سنواتٍ من الكدّ والجدّ وضعها أهلنا في بناء بيوتهم وجعلها منازل دافئةً آمنة. إنّ العدو ينمّي الثأر باستبدال الذكريات بأُخرى؛ يخلُق ذكريات جديدة للطفل الذي خسر أمه وأباه وجده وأخته وأخاه ومسجده ومدرسته ومنزله وشجرة الزيتون وملعب الحيّ وملتقى الأصدقاء. وإن كانت الجرائم هي ذاتها جرائم عام 1938، وإن كان الدمار هو ذاته دمار البوسنة والهرسك، إلّا أنّنا اليوم في فلسطين، وفي عام 2024، والصورة لا تكذب. حتّى ولو كذبت التصريحات، واختفت الأعمدة، وتلفت أساسات الأبنية، فإنّ الصورة لا تكذب، لا الصورة الذهنية التي طبعها الاحتلال تكذب، ولا صور الهواتف وعدسات الكاميرات يمكنها أن تنكر. إنّ العلاقة بين محو ذاكرة شعبٍ ما، ومحو كلّ تعبيرٍ ماديّ يمتّ إلى هذه الذاكرة بصلة، علاقةٌ لا نقاش فيها. ذاكرة الحرب ذاكرةٌ شخصيّة، تحفر تفاصيلها في أذهان من يعانون يوميًّا ويلاتها، من يقتلُهم كلّ يومٍ موتُ أحبابهم وفناء منازلهم، وهي ذاكرة جماعيّةٌ تؤكّد الارتباط التاريخي والمشاعر المشتركة والمعاناة الواحدة: ذاكرة الحرب ليست ذاكرتنا وحدنا، بل هي ذاكرة جيلٍ فجيل، أو كما يقول الشاعر المصري الراحل، أمل دنقل:
إنّه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً
يوقد النار شاملةً
يطلب الثأرَ
يستولد الحقَّ
من أَضْلُع المستحيل.